وَدَخل وفد نجران، فأتى الرَّاهب ليثَ بن أبي شمرٍ الزَّبيْديَّ -وهو في رأس صومعةٍ- فقال له: إن نبيَّاً بُعِثَ بتهامة، وإنه كتب إلى الأسقف؛ فأجمع رأي أهل الوادي على أن يسير إليه شرحبيل بن وداعَةَ وعبد الله بن شرحبيل وجَبَّار بن فيض فتأتونهم بخبره، فساروا حتى أتوا النبي - ﷺ - فدَعاهم إلى الملاعنة، فكرهوا ملاعنَتَهُ وَحَكَّمَهُ شرحبيل، فحكم عليهم حُكْماً وكتبَ لهم به كتاباً، ثم أقبل الوَفْدُ بالكتاب حتى دُفعوا إلى الأسقف، فبينا الأسقف يقرأهُ وبشر مَعه؛ إذ كبت بشر ناقته فَتَعَّسَهُ، فشهد الأسقف أنه نبيٌّ مرسل، فانْصَرَفَ أبو علقمة نحْوه يريد الإِسلام، فقال الراهب: انزلوني؛ وإلَّا رميت نفسي من هذه الصومعة؛ فأنزلوه، فانطلق الراهب بهدية إلى رسول الله - ﷺ - منها هذا البُرْدُ الذي يلبسه الخلفاءُ، والقَعْبُ والعصا، وأقام الراهبُ بعد ذلك سنين يسمع كيف ينزل الوحي والسُّنن والفرائض والحدود، وأبَى الله للراهب الإِسلام فلم يُسلم، واستأذَنَ رسول الله - ﷺ - في الرجعة إلى قومه، فأَذِنَ له، وقال - ﷺ -: "لك حاجتك يا راهبُ؛ إذ أبيت الإِسلام؟! "، فقال له الراهب: إن لي حاجةً ومعَاذَ الله إن شاء الله، فقال له رسول الله - ﷺ -: "إن حاجتك واجبةٌ يا راهب! فاطلبها إذا كان أحبَّ إليك"، فرجع إلى قومه فلم يَعُد حتى قُبضَ رسول الله - ﷺ -.
وإنَّ الأسقُفَّ أبا الحارث أتى رسول الله - ﷺ - ومعه السيدُ والعاقب ووجوه قَوْمِهِ، وأقاموا عنده يسمعون ما يُنزِلُ الله -عزّ وجلّ- عليه، فكتبَ للأسقف هذا الكتاب ولأساقفُّةِ نجران: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. من محمد النبي - ﷺ - للأسقُفِّ أبي الحارث وكل أساقفةِ نَجْرَانَ وكهنتهم ورُهْبانهم وبيعهِمْ وأهل بيعهِمْ ورقيقهم وملَّتهِم ومتواطئهم، وعلى كل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير جوار الله ورسوله؛ لا يغيَّرُ أسقُفٌ من أسقفَّتَهِ، ولا راهبٌ من رهبانيته، ولا كاهنٌ من كهانته، ولا يغيَّرُ حقٌ من حقوقهم، ولا سلطانهم، ولا مما كانوا عليه، على ذلك جوارُ الله ورسوله