من اجتياز نهر النيل لماعرفوا به من الإفساد في الأرض (١)، فتسابقوا إليها وجرت بين الأعراب وبين المعز حروب كثيرة كانت فيها الدائرة عليه، وتمكنوا من دخولها سنة ٤٤٣ هـ، فخربوها وأتوا على الأخضر واليابس، وتقاسموا مدنها، فمامن قرية إلا وقد سحقت وأكلت، وأهلها عراة أمام حيطانها، من رجل وامرأة وطفل، يبكي جميعهم جوعا وبردا، وانقطع المير عن القيروان، وتعطلت الأسواق (٢).
وأما قابس فاستطاع أن يحكمها بعض القواد العرب وذريته وأما تونس فساعدها موقعها المنيع وانفتاحها على البحر لتصبح أهم مدينة يحكمها بنو فرسان، وأما الأمير الزيري فالتجأ إلى المهدية واتخذها عاصمة للدولة الضائعة، التي استولى عليها النورمنديين سنة ١١٤٨ م، ثم تم الفتح الإسلامي للمهدية مرة أخرى على يد الموحدين الذين سحقوا القبائل الهلالية وطردوا النورمنديين وعينوا في سنة ١٢٠٧ م واليا عليها هو عبد الواحد بن أبي حفص الذي أسس فيها مملكة لمدة ثلاثة قرون (٣).
وبذلك انتهت حضارة القيروان التي كانت العاصمة الدينية والعلمية والسياسية لإفريقية والمغرب، فهي منذ الفتح إلى أن خربت دار العلم بالمغرب، إليها ينسب أكابر علمائه وإليها كانت رحلة أهله في طلب العلم (٤)، فلما خربت جلا أهلها عنها وتفرق من بقي حيا من علمائها في الأمصار (٥)، ولم تعد إليها الحياة العلمية إلا بعد أكثر من قرن من الزمان
_________
(١) انظر عن أصل بني هلال واشتهارهم بالتخريب والفساد ودخولهم إفريقية: العبر ٦/ ١٣، البيان المغرب ١/ ٢٨٨ - ٢٩٥، تاريخ التمدن الإسلامي ٤/ ٣٢٤، رحلة التجاني ١٦.
(٢) انظر تفصيل ذلك في الكامل ٨/ ٥٩، العبر ٤/ ٦٣، ٦/ ١٦، ١٥٩، البيان المغرب ١/ ٢٩١ - ٢٩٤، إتحاف أهل الزمان ١/ ١٣٩، المعالم ١/ ١٥، ٢٠، ٣/ ١٩٠ - ١٩٢، الشجرة ٢/ ١٢٨ - ١٣١، وقد ألف في ذلك محمد بن سعدون القروي (ت ٤٨٦ هـ) كتابا سماه "تعزية أهل القيروان بما جرى في البلدان من هيجان وتقلب الأزمان"، انظر البيان المغرب ١/ ٢٨١.
(٣) تاريخ تونس ص: ٤٨ - ٥٢.
(٤) انظر الشجرة ٢/ ١٣٠، مقدمة ابن خلدون ٤٣١.
(٥) انظر المعجب ٣٥٨.