والناس وإن كانوا يلاقون جزاء أعمالهم في الدنيا باعتبارهم أفرادا من بؤس وشقاء، جزاء تفريطهم في أداء الحقوق والواجبات التي عليهم، فربّما يظهر ذلك في بعض دون بعض، فإنّا نرى كثيرا من المنغمسين في شهواتهم، يقضون أعمارهم وهم متمتّعون بلذّاتهم. نعم: إنّهم لا يسلمون من المنغّصات، وربّما أتتهم الجوائح في أموالهم، واعتلّت أجسامهم، وضعفت عقولهم، ولكن لا يكون جزاء كاملا لما اقترفوه من عظيم الموبقات، وكبير المنكرات. كذلك نرى كثيرا من المحسنين، يبتلون بهضم حقوقهم، ولا ينالون ما يستحقّون من حسن الجزاء. نعم: إنّهم ينالون بعض الجزاء براحة ضمائرهم، وسلامة أجسامهم، وصفاء ملكاتهم، وتهذيب أخلاقهم، ولكن ليس هذا كلّ ما يستحقّون من الجزاء، فإذا جاء ذلك اليوم، استوفى كلّ عامل جزاء عمله كاملا، إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ، جزاء وفاقا لما عملوا ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.
أمّا الناس باعتبارهم أمما وجماعات: فيظهر جزاؤهم في الدنيا ظهورا تامّا، فما من أمّة انحرفت عن الصراط السويّ، ولم تراع سنّة الله في الخليقة، إلّا حلّ بها ما تستحق من الجزاء من فقر بعد غنى، وذلّ بعد عزّة، ومهانة بعد جلال وهيبة.
فائدة: (١) ومن لطائف ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾: أنّ مخالفة الملك تؤول إلى خراب العالم وفناء الخلق، فكيف مخالفة ملك الملوك؟ كما قال تعالى: ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ﴾ والطاعة سبب المصالح، كما قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى﴾، فعلى الرعيّة مطاوعة الملوك، وعلى الملوك مطاوعة ملك الملوك؛ لتنتظم مصالح العالم. ومن لطائفه أيضا: أنّ ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ يبيّن أنّ كمال ملكه بعدله حيث قال: ﴿وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾، فالملك المجازي إن كان عادلا كان حقّا، فدرّت الضروع، ونمت

(١) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon