فكره، أو يرقى إليه إدراكه.
فمن يتذلّل لملك لا يقال: إنّه عبده؛ لأن سبب التذلّل معروف، وهو إما؛ لخوف من جوره وظلمه، وإما؛ رجاء كرمه وجوده. وللعبادة صور وأشكال تختلف باختلاف الأديان والأزمان، وكلّها شرعت؛ لتنبيه الإنسان إلى ذلك السلطان الأعلى، والملكوت الأسمى؛ ولتقويم المعوجّ من الأخلاق، وتهذيب النفوس، فإن لم تحدث هذا الأثر لم تكن هي العبادة التي شرعها الدين.
هاك الصلاة: هب أنّ الله أمرنا بإقامتها، والإتيان بها كاملة، وجعل من آثارها: أنّها تنهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، فإن لم يكن لها هذا الأثر في النفوس، كانت صورا من الحركات والعبارات، خالية من روح العبادة وسرّها، فاقدة جلالها وكمالها، وقد توعّد الله سبحانه فاعلها بالويل والثبور، فقال: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ﴾، فهم وإن سمّاهم مصلّين لأنهم أتوا بصورة الصلاة، وصفهم بالسهو عن حقيقتها ولبّها؛ وهو توجّه القلب إلى الله والإخبات إليه، وهو المشعر بعظمته. وفي الحديث: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله إلّا بعدا». وأنّها «تلفّ كما يلّف الثوب البالي، ويضرب بها وجهه».
﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ أي (١): منك لا من غيرك نطلب المعونة على عبادتك، وعلي جميع أمورنا دينا ودنيا. فإن قلت: الاستعانة على العمل إنّما تكون قبل الشروع فيه، فلم أخّر الاستعانة عن العبادة، وما الحكمة فيه؟
قلنا: قدّمت العبادة على الاستعانة؛ لأنّ تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة أقرب إلى الإجابة، أو قدّمها؛ لرعاية الفاصلة كما قدّم الرحمن، وإن كان الأبلغ لا يقدّم. اه. «نسفي».
وعبارة «الخازن» هنا: فإن قلت: الاستعانة على العمل إنّما تكون قبل

(١) النسفي.


الصفحة التالية
Icon