مع أنه رماهم يوم بدر بالحصى في وجوهم، قلت: نفى الفعل عنهم وعنه باعتبار الإيجاد إذ الموجد له حقيقة هو الله تعالى، وإثباته لهم باعتبار الكسب والصورة فقوله: ﴿إِذْ رَمَيْتَ﴾؛ أي: أتيت بصورة الرمي، وقرأ (١) حمزة، والكسائي، وابن عامر: ﴿وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾، ﴿وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾ بتخفيف نون ﴿لكِنَّ﴾، ورفع الجلالة، والباقون بالتشديد ونصب الجلالة، وجاءت هنا لكن أحسن مجيء لوقوعها بين نفي وإثبات، ولم يقل: فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم كما قال: ﴿إِذْ رَمَيْتَ﴾ مبالغة في الجملة الثانية اه من «السمين».
فصل
والفرق (٢) بين قتل المسلمين للكفار، وبين رمي النبي صلى الله عليه وسلّم إياهم بالتراب:
أن الأول فعل من أفعالهم المقدورة لهم، بحسب سنن الله في الأسباب الدنيوية، وأن الثاني لم يكن سببا عاديا لإصابتهم، وهزيمتهم لا مشاهدا كضرب أصحابه، لأعناق المشركين، ولا غير مشاهد، إذ هو لا يكون سببا لشكاية أعينهم، وشوهة وجوههم لقلته، وبعده عن راميه وكونهم غير مستقبلين له، كلهم، ومن ثم كانت الحاجة ماسة إلى بيان نقص الأول، وعدم استقلاله بالسببية، وبيان أنه لولا تأييد الله ونصره لما وصل كسبهم المحض إلى هذا الفشل؛ لأنك قد علمت ما كان من خوفهم، وكراهتهم للقتال، وبمجادلة النبي صلى الله عليه وسلّم فهم لو ظلوا على هذه الحال مع قلتهم وضعفهم، لكان مقتضى الأسباب العادية أن يمحقهم المشركون محقا.
والفرق بين فعله تعالى في القتل، وفعله في الرمي: أن الأول عبارة عن تسخيره تعالى لهم أسباب القتل، كما هو الحال في جميع كسب البشر وأعمالهم الاختيارية من كونها لا تستقل في حصول غاياتها إلا بفعل الله، وتسخيره لهم للأسباب التي لا يصل إليه كسبهم عادة كما بين ذلك سبحانه بقوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤)﴾ فالإنسان يحرث الأرض ويلقي فيها البذر، ولكنه لا يملك إنزال المطر، ولا إنبات الحب وتغذيته بمختلف عناصر
(١) الفتوحات.
(٢) المراغي.
(٢) المراغي.