الإطلاق شاق على النفس، فخص الله سبحانه وتعالى بعض الأوقات بمزيد التعظيم والاحترام، ليمتنع الإنسان في تلك الأوقات من فعل الظلم والقبائح والمنكرات، فربما تركها في باقي الأوقات، فتصير هذه الأوقات الشريفة والأشهر المحرمة المعظمة، سببًا لترك الظلم والمعاصي في غيرها من الأشهر، فهذا وجه الحكمة في تخصيص بعض الأشهر دون بعض، بمزيد التشريف والتعظيم، وكذلك الأمكنة أيضًا.
وقد ذهب (١) جماعة من أهل العلم إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ، لهذه الآية ولقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ ولقوله: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ الآية.
وقد ذهب جماعة آخرون إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ بآية السيف، ويجاب عنه بأن الأمر بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم، كما في الآية المذكورة، فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مقيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحرم، كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحرم، للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه، وأما ما استدلوا به من أنه - ﷺ - حاصر أهل الطائف في شهر حرام، وهو ذو القعدة، كما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما.. فقد أجيب عنه بأنه لم يبتدىء محاصرتهم في ذي القعدة، بل في شوال، والمحرم إنما هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم لا إتمامه، وبهذا يحصل الجمع.
وعبارة "المراغي" هنا قوله: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ (٢)؛ أي: فلا تظلموا في الأشهر الحرم أنفسكم باستحلال حرامها، فإن الله عظمها وعظم حرمتها، وقد خص بعض الأزمنة وبعض الأمكنة بأحكام من العبادات تقتضي ترك المحرمات فيها، تنشيطًا للنفوس على زيادة العناية بما يزكيها ويطهرها، فقد جرت عادة الإنسان أن يسأم الاستمرار على حال واحدة تشق عليه، ومن ثم جعل الله العبادات الدائمة خفيفة لا مشقة، كالصلوات الخمس، وخص يوم الجمعة

(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.


الصفحة التالية
Icon