القرآن ﴿كِتَابٌ﴾ عظيم الشأن جليل القدر ﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾؛ أي (١): صارت آياته محكمة متقنةً لا نقص فيها ولا نقض لها، كالبناء المحكم من الإحكام، أي: الإتقان ففعله متعد، والمعنى أتقنت آياته لفظًا ومعنى، فلا يحيط بمعنى آيات القرآن غيره تعالى ولم يوجد تركيب بديع الصنع، عديم النظير، نظير القرآن. وقيل معناه: إنها لم تنسخ، بخلاف التوراة والإنجيل، وعلى هذا فيكون هذا الوصف للكتاب باعتبار الغالب، وهو المحكم الذي لم ينسخ. وقيل معناه: أحكمت آياته بالأمر والنهي ﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ بالوعد والوعيد والثواب والعقاب. وقيل: أحكمها الله من الباطل، ثم فصلها بالحلال والحرام. وقيل: أحكمت جملته ثم فصلت آياته. وقيل: ﴿أُحْكِمَتْ﴾ وجمعت في اللوح المحفوظ ﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ بالوحي. وقيل: أحكمها الله تعالى، فليس فيها تناقض، ثم فصلها وبينها. وقيل: أحكمت آياته لفظًا ونظمت نظمًا رائقًا بليغًا، ثم فصلت معنى، وبينت وفسرت.
فإن قلت (٢): كيف عم الآيات هنا بالإحكام، وخص بعضها بالإحكام في قوله: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾؟
قلتُ: إن الأحكام الذي عم به هنا، غير الذي خص به هناك، فمعنى الإحكام العام هنا أنه لا يتطرق إلى آياته التناقض والفساد، كإحكام البناء، فإن هذا الكتاب نسخ جميع الكتب المتقدمة عليه. والمراد بالإحكام الخاص المذكور في قوله: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ أن بعض آياته منسوخة؛ نسخها بآيات منه أيضًا لم ينسخها غيره. وقيل: أحكمت آياته؛ أي: معظم آياته محكمة، وإن كان قد دخل النسخ على البعض، فأجري الكل على البعض؛ لأن الحكم للغالب وإجراء الكل على البعض مستعمل في كلامه، تقول: أكلت طعام زيد، وإنما أكلت بعضه. والتراخي المستفاد من ﴿ثُمَّ﴾ إما زماني إن فسر التفصيل بالتنجيم بحسب النزول؛ لأنها أحكمت أولًا حين نزلت جملة واحدة، ثم فصلت ثانيًا على حسب المصالح والوقائع، وإما رتبي إن فسر بغيره مما تقدم.
(٢) الخازن.