الجنة، ونزع عنهما لباسَ النور، وحلف أنه ليعملن في نوع الإنسان كل حيلة، وليأتينهم من كل جهة وجانب، فلا يزال مجتهَدًا في إغواء إخوتك وإضلالهم، وحملهم على الإضرار بك، فَبِه عُلِمَ أنهم يَعْلَمُونَ تَأْويلَهَا فقال ما قال. قال بعض العارفين: بَرَّأ أبناءه من ذلك الكيد، فألحقه بالشيطان لِعِلْمه أن الأفعال كلَّها من الله تعالى، ولمَّا كان الشيطان مظهرًا لاسم المُضِلِّ أضَافَ الفعل السَّببيَّ إليه، وهذه الإضافة أيضًا كيد ومكر، فإن الله تعالى هو الفاعل في الحقيقة لا المظهر الشيطاني.
٦ - ﴿وَكَذَلِكَ﴾؛ أي: كما اجتباك لهذه الرؤية الدالة على عُلُوِّ شأنك ﴿يَجْتَبِيكَ﴾ ويصطفيك ﴿رَبُّكَ﴾ بالنبوة والرسالة والملك؛ أي (١): مثل اجتبائك واختيارك من بين إخوتك، لمثل هذه الرؤيا العظيمة، الدالةِ على شرفِ وعز وكبرياء شأنك، فالكاف في محل النصب على أنه صفة لمصدر محذوف، كما سيأتي في مبحث الإعراب.
﴿يَجْتَبِيكَ﴾: أي: يَخْتَارُكَ، ويصطفيك لما هو أعظم منها، كالنبوة ويبرزُ مِصْداقُ تلكَ الرُّؤَيا في عالم الشهادة إذ لا بُدَّ لكل صورة مرئية في عالم المثال حقيقة واقعة في عالم الشهادة، وإن كانت الدنيا كلها خَيَالًا. وقوله: ﴿وَيُعَلِّمُكَ﴾ كلام مستأنف غير داخل في حكم التشبيه كأنه قيل: وهو تعالى يعلمك، لأنَّ الظاهر أن يشبَّهَ الاجتباءُ بالاجتباءِ والتعليم غَيْرُ الاجتباء؛ أي: ويُعَلِّمُكَ ﴿مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾؛ أي: تعبير الرؤيا وتفسيرها، والأحاديث (٢) جمع تكسير لحديث على غير قياس، وإنما سميت الرؤيا أحاديث؛ لأنها إما أحاديث الملك إن كانت صادقةً أو أحاديث النفس والشيطان إن لم تكن كذلك، وتسميتها تَأويلًا، لأنه يَؤُول أمرها إليه؛ أي: يرجع إلى ما يذكره المعبِّر من حقيقتها.
وحاصل المعنى: أي وكما أراك (٣) ربك الكواكبَ والشمس والقمرَ سجَّدًا

(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.


الصفحة التالية
Icon