العارفين: مَال يعقوبُ إلى يوسفَ لظهور كمال استعداده الكليِّ في رؤياه حين رَأى أحد عشرَ كَوْكبًا والشَّمْسَ والقمرَ له ساجدين، فَعَلِمَ أبوه من رؤياه أنه يَرِث أباه وجده، ويجمعُ استعداداتِ إخْوتِهِ، فكان يضمه كل ساعة إلى صدره، ولا يَصْبِرُ عنه فتَبالَغَ حَسَدُهم حتى حَمَلَهم على التعرُّض له.
وقيل: لأنَّ اللَّهَ تعالى أَرادَ ابتِلاَءَهُ بمحبته إليه في قلبه، ثمَّ غيَّبَهُ عنه ليكون البلاء أشدَّ عليه، لغيرة المحبة الإلَهية، إذ سلطان المحبة لا يقبل الشركة في ملكه، والجمالُ والكمال في الحقيقة لله تعالى، فلا يَحْتَجِبُ أحدٌ بما سواه، ولا كيد أشدَّ من كيد الولد. ألا ترى أنَّ نوحًا عليه السلام دَعَا على الكفار فأغْرَقهم الله تعالى، فلَم يَحْتَرق قَلْبُه، فلما بلغَ وَلدُه الغرقَ صاح ولم يصبر وقال: ﴿إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾. قيل: وإنما خَصَّ (١) يعقوبُ يُوسُفَ بمزيد المحبة والشفقة؛ لأنَّ أُمهُ ماتَتْ وهو صغير، أو لأنه رَأَى فيه من آيات الرشد، والنجابة ما لم يره في سائر إخوته، أو لأنه وإن كانَ صغيرًا كان يخدم أباه بأنواع من الخدمة، أعلى مما كان يَصْدُر عن سائر الأولاد.
وكان (٢) بنيامين أصْغَرَ من يُوسُفَ فكان يعقوب يحبهما بسبب صغرهما، وموتِ أمهما، وحُبُّ الصغير، والشفقةُ عليه مركوز في فطرة البشر. وقيل لابنةِ الحسن: أي ابنيك أحبُّ إليك؟ قالت: الصغيرُ حتى يَكْبَرُ، والغائبُ حتى يَقدم، والمريضُ حتى يُفِيقَ. وقد نظم الشعراء في محبة الولد الصغير قديمًا وحديثًا، ومِنْ ذلك ما قاله الوزير أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري في قصيدته التي بَعَثَ بها إلى أولاده وهو في السجن:

وَصَغِيْرُكُمْ عَبْدُ الْعَزِيزِ فَإنَّنِي أَطْوِيْ لِفُرْقَتِهِ جَوَى لَمْ يَصْغُرِ
ذَاكَ المُقَدَّمُ في الْفُؤَادِ وَإِنْ غَدَا كُفُؤًا لَكُمْ في الْمُنْتَمَى وَالْعُنْصُرِ
إنَّ الْبَنَانَ الْخَمْسَ أَكْفَاءٌ مَعًا وَالْحِلْيُ دُوْنَ جَمِيْعِهَا لِلْخِنْصَرِ
وَإِذَا الْفَتَى بَعْدَ الشَّبَابِ سَمَا لَهُ حُبُّ الْبَنِيْنِ وَلاَ كَحُبِّ الأَصْغَرِ
(١) الخازن.
(٢) البحر المحيط.


الصفحة التالية
Icon