فإن قلت (١): والذي فَعَلَه إخوة يوسُفَ بيُوسُفَ هو محض الحسد، والحسدُ من أمهات الكبائر، وكذلك نسبةُ أبيهم إلى الضلال، هو مَحْضُ العقوق، وهو من الكبائر أيضًا، وكُلُّ ذلك قادحٌ في عصمة الأنبياء، فما الجواب عنه؟
قلت: هذه الأفعالُ إنَّمَا صدرت من إخوة يوسف قبل ثبوت النبوة لهم، والمعتبر في عصمة الأنبياء هو وَقْتُ حصول النبوة لا قبلها. وقيل: كانوا وَقْتَ هذه الأفعال مُراهِقينَ غَيْرَ بالغين، ولا تكليفَ عليهم قبل البلوغ، فعلى هذا لم تكن هذه الأفعالُ قادحة في عصمة الأنبياء، ولكنَّ هذا القول ليسَ بصحيح بدليل قولهم: ﴿يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾. قال في "الكواشي" (٢): لا وَقْفَ من السائلين إلى صالحينَ؛ لأن الكلامَ جملة محكية عنهم، انتهى؛ أي: للتعلق المعنويِّ بَيْنَ مقدم الكلام، ومؤخره إلَّا أن يكونَ مضطرًا بأن يَنْقَطِعَ نَفَسُهُ، فحينئذ يجب عليه أن يَرجع إلى ما قبله، ويوصل الكلامَ بعضَه ببعض، فإن لم يفعل أثِمَ كما في بعض شروح الجزري، وقرىء: (مبين)
٩ - ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ بكسر وضم، والمشهورُ: الكسر وَجْهُ الضم التبعية لعين الكلمة، وهي مضمومة؛ أي: قال إخوة يوسف بعضهم لبعض اقتلوا يوسف حتى لا يَكُونَ لأبيه أمَلٌ في لقائه ﴿أَوِ اطْرَحُوهُ﴾؛ أي: أو انْبُذُوه في أرض منكورة (٣) مجهولة بعيدة عن العمران، لِيَهْلِكَ فيها أو يأكلَه السباع، وهو معنى تنكيرها وإبهامها لا أنَّ معناه أيُّ أرض كانت، ولذلك نُصِبَتْ نَصْبَ الظروف المبهمة، وهي ما لَيْسَ له حدود تحصره، ولا أقطارٌ تُحْوِيه. وفيه إشارة إلَى أنَّ التَّغْرِيبَ يُسَاوِي القَتْلَ كمَا في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا﴾؛ أي: اطرحوه في أرض بعيدة عن العمران بحيث لا يهتدي إلى العودة إلى أبيه، إنْ هو سَلِمَ من الهلاك. ﴿يَخْلُ﴾ على الجزم في جواب الأمر؛ أي: يَخْلُص ﴿لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ من شغله بيوسف، فيقبل عليكم بكليته، ولا يَلْتَفِتْ عنكم إلى غيركم، وتتوفر محَبَّتُه فيكم، فَذِكْرُ الوجه لتصوير معنى إقبالِه عليهم؛ لأن الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه؛ ويجوز أن يُرادَ

(١) الخازن.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon