تسخيرهما: كونهما نافعتين للناس حيث يعلمون عدد السنين والحساب بمسير الشمس والقمر، وينوران لهم في الليل والنهار، ويدرآن الظلمات، ويصلحان الأرض والأبدان والأشجار والنباتات. ﴿كُلٌّ﴾ منهما ﴿يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى﴾؛ أي: يسير إلى وقت معلوم، فاللام بمعنى إلى؛ وهو فناء الدنيا وقيام الساعة التي تكور عندها الشمس ويخسف القمر وتنكدر النجوم وتنتثر. وقيل: المراد بالأجل المسمى: درجاتهما: ومنازلهما التي ينتهيان إليها لا يجاوزانها؛ وهي سنة للشمس وشهر للقمر، فللشمس والقمر منازل كل منهما يغرب في كل ليلة في منزل، ويطلع في منزل آخر حتى ينتهي إلى أقصى المنازل.
والمعنى: أي وذلل الشمس والقمر، وجعلهما طائعين لما يراد منهما لمنافع خلقه، فكل منهما يسير في منازله إلى وقت معين، فالشمس تقطع فلكها في سنة، والقمر في شهر لا يختلف جري كل منهما عن النظام الذي قدر له، وإليه الإشارة بقوله: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا﴾ وبقوله: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾ كما سبق إيضاح هذا في سورتي "يونس" و"هود". قال بعضهم: وهذا المعنى هو الحق في تفسير الآية كما فسرها به ابن عباس رضي الله عنه.
وبعد أن ذكر هذه الدلائل قال: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾؛ أي: أمر العالم وحده؛ أي: يقضي سبحانه وتعالى، ويدبر أمر ملكوته من الإعطاء والمنع، والإحياء والإماتة، ومغفرة الذنوب وتفريج الكروب، ورفع قوم ووضع آخرين، وغير ذلك؛ أي: إنه تعالى يتصرف في ملكه على أتم الحالات وأكمل الوجوه، فهو يحيي ويميت، ويوجد ويعدم، ويغني ويفقر، وينزل الوحي على من يشاء من عباده، وفي ذلك برهان ساطع على القدرة والرحمة، فإن اختصاص كل شيء بوضع خاص وصفةٍ معنية لا يكون إلا من مدبر اقتضت حكمته أن يكون كذلك، فتدبيره لعالم الأجسام كتدبيره لعالم الأرواح، وتدبيره للكبير كتدبيره للصغير، لا يشغله شأن عن شأن، ولا يمنعه تدبير شيء عن تدبير آخر، كما هو شأن المخلوقات في هذه الدنيا، وكذلك هو دليل أيضًا على أنه تعالى متعال في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته، لا يشبه شيئًا من مخلوقاته.