وهو في الدنيا؛ أي: بين يديه وقدامه جهنم، فإنه صعد لجهنم واقف على شفيرها في الدنيا مبعوث إليها في الآخرة، أو من وراء حياته وهو ما بعد الموت، فيكون وراء بمعنى خلف، كما قال الكاشفي. ثم بين شرابه فيها، فقال: ﴿وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ﴾؛ أي: ليس له في النار شراب إلا ماءٌ يخرج من جوفه، وقد خالطه القيح والدم، وخص بالذكر؛ لأنه آلم أنواع العذاب، فهو معطوف على مقدّر جوابًا عن سؤال سائل، كأنه قيل: فماذا يكون إذن؟ فقيل: يلقى فيها ويسقى ﴿مِنْ مَاءٍ﴾ مخصوص لا كالمياه المعهودة، ﴿صَدِيدٍ﴾: هو القيح المختلط بالدم، أو ما يسيل من أجساد أهل النار وفروج الزناة، وهو عطف بيان لماء، أبهم أولًا ثم بين بالصديد تعظيمًا وتهويلًا لأمره، وتخصيصه بالذكر من بين عذابها يدل على أنه من أشد أنواعه، أو صفة عند من لا يجيز عطف البيان في النكرات وهم البصريون، فإطلاق الماء عليه لكونه بدله في جهنم. وقيل (١): صديد بمعنى مصدود عنه؛ أي: لكراهته يصد عنه، فيكون مأخوذًا من الصد بمعنى الإعراض.
١٧ - ثم ذكر ألمه من ذلك الشراب، فقال: ﴿يَتَجَرَّعُهُ﴾ استئناف بياني، كأنه قيل: فماذا يفعل به؟ فقيل: يتجرعه؛ أي: يتحساه ويشربه مرة بعد مرة لا بمرة واحدة، بل جرعة بعد جرعة لمرارته وحرارته وكراهته ونتنه ﴿وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾؛ أي: لا يقارب أن يسيغه ويبتلعه فضلًا عن الإساغة، بل يغص به ولا يقدر على ابتلاعه من شدة كراهته ورداءة طعمه ولونه وريحه وحرارته، كما قال: ﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾، وقالا: ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ﴾.
وعن أبي أمامة (٢) - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ - في قوله تعالى: ﴿وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ﴾ قال: "يقرب إلى فيه فيكرهه، فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شعر به قطع أمعاءه حتى تخرج عن دبره،

(١) البحر المحيط.
(٢) الخازن.


الصفحة التالية
Icon