الدنيا، وأول يوم يرى فيه أمر الآخرة، وأول يوم يرى فيه الجنة والنار، وإنما خص هذه المواضع الثلاثة لأن العبد أحوج ما يكون إلى رضا ربه فيه، لضعفه، وحاجته، وقلة حيلته، وأفتقاره إلى رحمة ربه ورأفته به.
١٦ - ﴿وَاذْكُرْ﴾ يا محمد للناس ﴿فِي الْكِتَابِ﴾؛ أي: في القرآن وفي هذه السورة الكريمة، فإنها بعض من الكتاب، فصح إطلاقه عليها ﴿مَرْيَمَ﴾؛ أي: خبر مريم بنت عمران وقصتها، فإن الذكر لا يتعلق بالأعيان، ومريم بمعنى العابدة.
فائدة: قال بعض العلماء (١) في حكمة ذكر مريم في القرآن باسمها دون غيرها من النساء: إن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في ملأ، ولا يبتذلون أسماءَهن، بل يكنون عن الزوجة بالعرس والعيال والأهل ونحو ذلك، فإذا ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن، ولم يصونوا أسماءَهن عن الذكر والتصريح بها، فلما قالت النصارى في حق مريم ما قالت وفي ابنها.. صرح الله تعالى باسمها ولم يكنّ عنها تأكيداً للأمة والعبودية التي هي صفة لها، وإجراءً للكلام على عادة العرب في ذكر إمائها، ومع هذا فإن عيسى - عليه السلام - لا أب له، واعتقاد هذا واجب، فإذا تكرّر ذكرهُ منسوبًا إلى الأم.. استشعرت القلوب ما يجب عليها اعتقاده من نفي الأب عنه، وتنزيه الأم الطاهرة عن مقالة اليهود - لعنهم الله تعالى - كذا في "التعريف والإعلام" للإمام السهيلي.
وقال في "أسئلة الحكم": سميت مريم (٢) في القرآن باسمها لأنها أقامت نفسها في الطاعة كالرجل الكامل، فزكرت باسمها كما يذكر الرجال، من موسى وعيسى ونحوهما - عليهم السلام - وخوطبت كما خوطب الأنبياء، كما قال تعالى: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)﴾ ولذا قيل بنبوتها، وقوله: ﴿إِذِ انْتَبَذَتْ﴾ وابتعدت، ظرف لذلك المضاف المقدر، من النبذ وهو الطرح، والانتباذ انفعال منه ﴿مِنْ أَهْلِهَا﴾؛ أي: من قومها متعلق بانتبذت {مَكَانًا
(٢) روح البيان.