بيت البدن، وبه قوامه، وهو أصل بنائه، فهذا أصابه الضعف مع صلابته وقلة تأثره بالعلل.. أصاب سائر الأجزاء، وتساقطت قوته، ولأن أشد ما في الإنسان صلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن، وأفرد العظم قصدًا إلى الجنس المفيد لشمول الوهن لكل فرد من أفراد العظام، وقال قتادة: اشتكى سقوط الأضراس كما في "البغوي".
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَهَنَ﴾ بفتح الهاء وقرأ الأعمش: بكسرها، وقرىء: بضمها لغاتٌ ثلاثٌ ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ﴾ منِّي: حذف اكتفاءً بما سبق؛ أي: وابيضَّ الشعر مني. ﴿شَيْبًا﴾؛ أي: أخذ رأسي شمطًا، وقد صار مثل شواظ النار، شبّه الشيب في بياضه وإنارته بشواظ النار، وانتشاره وفشوَّه في الشعر باشتعالها مبالغةً (٢)، وإشعارًا لشمول الشيب جميع الرأس، حتى لم يبق من السواد شيء، وجعل الشيب تمييزًا إيضاحًا، للمقصود، والأصل اشتعل شيب رأسي، فوزانه بالنسبة إلى الأصل وزان اشتعل بيته نارًا، بالنسبة إلى اشتعل النار في بيته.
﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾؛ أي: ولم أكن بدعائي إياك يا ربي خائبًا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل، بل كلما دعوتك استجبت لي، وهذا توسّلٌ منه بما سلف من الاستجابة عند كل دعوة، إثر تمهيد ما يستدعي الرحمة ويستجلب الرأفة، من كبر السن، وضعف الحال، فإنه تعالى بعدما عوّد عبده بالإجابة دهرًا طويلًا، لا يخيبه أبدًا لا سيما عند اضطرارٍ وشدة افتقارٍ؛ والمعنى: أي: قد أحسنت إليّ فيما سلف، وسعدت بدعائي إياك، فالإنعام يقتضي أن تجيبني آخرًا كما أجبتني أولًا، ذكره في "البحر".
قال العلماء (٣): يستحب للمرء أن يجمع في دعائه بين الخضوع وذكر نعم الله عليه، كما فعل زكريا هاهنا، فإن في قوله: ﴿وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ غاية الخضوع والتذلل وإظهار الضعف والقصور عن نيل مطالبه وبلوغ

(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.


الصفحة التالية
Icon