الجبل لسمعنا ذلك، وعصينا أمرك، وجملة قوله: ﴿وَأُشْرِبُوا﴾ في محل النصب على الحال من فاعل ﴿قَالُوا﴾؛ أي: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ والحال أنَّهم أشربوا وسُقوا ﴿فِي قُلُوبِهِمُ﴾ بيانٌ لمكان الإشراب، كقوله: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ ﴿الْعِجْلَ﴾ أي: حبَّ عبادة العجل، فهو على حذف مضافين، يقال: أشرب قلبه كذا؛ أي: حلَّ محلَّ الشراب، أو اختلط، كما خلط الصبغ بالثوب.
وحقيقة (١) أُشربَه كذا جعله شاربًا لذلك، فالمعنى: جُعلوا شاربين حبَّ العجل نافذًا فيهم نفوذ الماء فيما يَتغَلْغَلُ فيه. قال الراغب: من عاداتهم إذا أرادوا محاصرة حبِّ، أو بغضٍ في القلب، أن يستعيروا لها اسم الشراب، إذ هو أبلغ مساغًا في البدن، ولذلك قالت الأطباء: الماء مطيَّة الأغذية والأدوية ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ أي: بسبب كفرهم السابق لهم في مصر من الوثنية الموجب لذلك، والمعنى: حُبّب إليهم العجل، وخالط حبُّه قلوبهم، كما يخالط الشراب أجزاء البدن الباطنة. قيل: كانوا مُجسِّمةً، أو حُلُوليَّةً، ولم يروا جسمًا أعجب منه، فتمكَّن في قلوبهم ما سوَّل لهم السامريُّ، وجَعَل حلاوةَ عبادةِ العجل في قلوبهم مجازاة لكفرهم. وفي القصص: أنَّ موسى عليه السلام، لمَّا خرج إلى قومه أمَرَ أَنْ يُبْرَدَ العجل بالمِبْرد ثم يُدرَّى في النهر، فلم يبق نهرٌ يجري يومئذٍ إلّا وقع فيه منه شيءٌ، ثم قال لهم: اشربوا منه فمن بقي، في قلبه شيءٌ من حبّ العجل ظهَرَتْ سُحَالة الذَهب على شاربه؛ أي: خَرَجت بُرادَتهُ على شاربه، وهذا (٢) قولٌ يردُّهُ قولهُ: ﴿فِي قُلُوبِهِمُ﴾ وروي أنَّ الذين تبيَّن لهم حُبُّ العجل أصابهم من ذلك الماء الجُبْنُ، وبناؤه للمفعول في قوله: ﴿وَأُشْرِبُوا﴾ دليلٌ على أنَّ ذلك فُعِل بهم، ولا يفعلُه إلّا الله تعالى. وقال أبو حيان: ومعناه: أنَّه داخلهم حبُّ عبادته، كما داخل الصبغُ الثوبَ، وأنشدوا:

(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.


الصفحة التالية
Icon