والثالث: أعني: نسخ الحكم والتلاوة جميعًا، فكما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنّها قالت: (كان مما يتلى في كتاب الله ﴿عَشْرُ رضعات يُحَرِّمْنَ﴾ ثُمَّ نسخ بـ ﴿ـخمسُ رضعاتٍ يُحرّمن﴾) فهو منسوخ الحكم والتلاوة جميعًا، ومعنى النسخ في مثلها: بيان انتهاء التكليف بقراءتها وبالحكم المستفاد منها عند نسخها.
وهذان القسمان هما المذكوران بقوله: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ فدخل تحت قوله: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ قسمان من أقسام النسخ، وهما: نسخ الحكم واللفظ معًا، أو الحكم فقط، وتحت قوله: ﴿أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ﴾ قسمٌ واحد، وهو نسخ اللفظ دون الحكم. قال القرطبي: الجمهور على أنَّ النسخ إنّما هو مختصٌّ بالأوامر، والنواهي، والخبر لا يدخله النسخ؛ لاستحالة الكذب على الله تعالى.
والمعنى: أيَّ شيء من الآيات ننسخ ونرفع حكمها مع بقاء لفظها؟ كآية عدّة الوفاة بالحول بآية أربعة أشهر وعشرة أيام، أو ننسخ ونرفع لفظها وحكمها جميعًا، كنسخ عشر رضعات بخمس رضعات ﴿أو ننسأها﴾؛ أي: نؤخِّر ونبق حكمها مع رفع تلاوتها، كآية الرجم؛ لأنّه إمّا من النَّسيء إنْ قرأنا بفتح النون والسين، أو من الإنساء إن قرأنا بضمّ النون وكسر السين، وكلاهما بمعنى التأخير، والمراد: تأخير حكمها وإبقاؤه مع نسخ تلاوتها، أو تأخيرها في اللوح المحفوظ عن الإنزال إلى وقتٍ أراد الله سبحانه إنزالها فيه، وفي "الروح" قوله: ﴿أَوْ نُنْسِهَا﴾؛ أي: نذهبها عن قلوبكم، فإنساء الآية إذهابها من القلوب، كما روي إنَّ قومًا من الصحابة قاموا ليلةً ليقرؤوا سورةً، فلم يذكروا منها إلّا البسملة، فغدوا إلى النبي - ﷺ - وأخبروه، فقال - ﷺ -: "تلك سورةٌ رفعت بتلاوتها وأحكامها" ﴿نَأْتِ﴾؛ أي: نرسل جبريل ﴿بِخَيْرٍ﴾ أي: بآيةٍ هي خيرٌ وأسهل على العباد؛ أي: من المنسوخة؛ أي: نرسله (١) بما هو أنفع لكم، وأسهل عليكم، وأكثر لأجوركم، وليس معناه: أنَّ آيةً خيرٌ من آية؛ لأنَّ كلام الله تعالى واحدٌ، وكلُّه

(١) الخازن.


الصفحة التالية
Icon