بتكليفكم بعلم وعمل، واختباركم من آنٍ إلى آخر، بإنزال النوازل والمصائب في الأنفس، والأموال والثمرات، والتخلي عن بعض الشهوات وفعل التكاليف، من الزكاة والصيام والحج ونحوها، فحياتكم حياة جهاد وشقاء، شئتم أو أبيتم، وبمقدار ما تصبرون على هذا الاختبار، وتفوزون بالنجاح فيه، يكن مقدار الجزاء والثواب، وتلك سنة الله تعالى فيكم، وفي الأمم من قبلكم، وتاريخ الأديان مليء بأخبار هذا البلاء، وما لقيه المؤمنون من المكذبين بالرسل.
فإن قلت (١): لِمَ غاير بين الأسلوبين، حيث عبَّر في قوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ صيغة الفعل، وفي قوله: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ بصيغة اسم الفاعل؟
قلت: فيه نكتة، وهي أن اسم الفاعل يدل على ثبوت المصدر في الفاعل، ورسوخه فيه، والفعل الماضي لا يدل عليه؛ لأن وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإِسلام، وعن قوم مستمرين على الكفر، فعبر عن حق الأولين بلفظ الفعل، وفي حق الآخرين بالصيغة الدالة على الثبات، اهـ "زاده".
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ﴾ بفتح الياء واللام في الموضعين؛ أي: ليظهرن الله الصادق والكاذب في قولهم، ويميز بينهم، وقرأ علي ابن أبي طالب وجعفر بن محمد في الموضعين: بضم الياء وكسر اللام من أعلم الرباعي، وقرأ الزهري الأولى: كقراءة الجماعة، والثانية: كقراءة علي، ذكره أبو حيان.
والمعنى عليه: فليعلمن الطائفتين في الآخرة بمنازلهم، أو يُعلمُ الناس بصدق من صدق، ويفضح الكاذبين بكذبهم، أو يضع لكل طائفة علامة تشتهر بها، وتتميز عن غيرها.
٤ - وأم في قوله: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ﴾ (٣) منقطعة، فتقدر بالهمزة التي للاستفهام التوبيخي، وببل التي للإضراب الانتقالي من قصة إلى قصة، فالكلام انتقال من توبيخ الأول، على حسبانهم بلوغ الدرجات من غير مشاق، بل بمجرد الإيمان،
(٢) الشوكاني.
(٣) الفتوحات.