سنته فيمن عادى موسى، ومن آمن معه من بني إسرائيل، وأن النصر دائمًا للمتقين، ويخزى الله المكذبين، ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾.
وإنما جعل التلاوة للمؤمنين فقط، وهو يُتلى على الناس أجمعين لبيان أنه لا يعتبر بها إلا من كان له قلب واع، وأُذن سامعة تذكَّر وتتعظ بآياته، أما من أعرض عنه وأبى واستكبر، وقال: إن هذا إلا سحر يؤثر.. فلا تفيده الآيات والنذر، ولا يلقي له بالًا، ولا يعي ما فيه من حكمة، ولا ما يسوقه من عبرة، فهو على نحو ماحكى الله عنهم: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾.
٤ - ثم فصل هذا المجمل، ووضحه بقوله: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ فهو (١) استئناف بياني لذلك النبأ كأن سائلًا قال: وكيف نبأهما؟ فقال: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ وتصديره بحرف التأكيد للاعتناء بتحقيق مضمون ما بعده؛ أي: إن فرعون اللعين تجبَّر وطغى في أرض مصر، وقهر أهل مملكته، وجاوز الغاية في الظلم والعدوان، وساس البلاد سياسة غاشمة.
ومما مكن له في ذلك ما بيَّنه الله سبحانه بقوله: ﴿وَجَعَلَ﴾ فرعون ﴿أَهْلَهَا﴾؛ أي: أهل أرض مصر؛ أي: أهل مملكته ﴿شِيَعًا﴾؛ أي: فرقًا يشيعونه ويتبعونه ويطيعونه في كل ما يريد من الشر والفساد، أو جعلهم أصنافًا في استخدامه، يستعمل كل صنف في عمل من بناء وحرث وحفر وغير ذلك من الاْعمال الشاقة، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية.
والمعنى (٢): أي وفرَّقهم فرقًا مختلفة، وأحزابًا متعددة، وأغرى بينهم العداوة والبغضاء كيلا يتفقوا على أمر، ولا يُجمعوا على رأي، ويشتغل بعضهم بالكيد لبعض، وبذا يلين له قيادهم، ولا يصعب عليه خضوعهم واستسلامهم، وتلك هي سياسة الدول الكبرى في العصر الحاضر بل وفي الصغرى، كما تفعله الحُبُوشُ بين شعوب الأرمية الإِسلامية استئمارًا لم يُسمع قط في العالم قديمًا
(٢) المراغي.