ذلك وليعتبروا به فقال: ﴿وَاللَّهُ﴾ وحده، مبتدأ خبره قوله: ﴿الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ﴾ قرأ الجمهور (١): ﴿الرِّيَاحَ﴾ بالجمع، وقرأ ابن كثير وابن محيصن والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي: ﴿الرِّيَاحَ﴾ بالإفراد؛ أي: والإله الذي يستحق منكم العبادة هو الذي أوجد الرياح، وأنشأها من العدم، فهبو بها دليل ظاهر على الفاعل المختار، وذلك لأنّ الهواء قد يسكن وقد يتحرك، وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين، وقد يتحرك إلى الشمال، وفي حركاته المختلفة قد ينشىء السحاب، وقد لا ينشىء، فهذه الاختلافات دليل على تسخير مدبّر ومؤثر مقدّر.
والمراد بالرياح هنا (٢): الجنوب والشمال والصبا، فإنها رياح الرحمة لا الدّبور، فإنها رياح العذاب، أما الجنوب فريح تخالف الشمال، مهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا، وأما الشمال بالفتح ويكسر مهبها بين مطلع الشمس وبنات النعش، أو من مطلع الشمس إلى مسقط النسر الطائر، ولا تكاد تهب ليلًا، وأمّا الصبا: فمهبها من جانب المشرق إذا استوى الليل والنهار، سميت بها لأنها تصبو إليها النفوس؛ أي: تميل، ويقال لها: القبول أيضًا بالفتح؛ لأنها تقابل الدبور، أو لأنها تقابل باب الكعبة، أو لأن النفس تقبلها. ﴿فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾؛ أي: تهيّجه وتحركه من حيث هو، وتنشره وترفعه بين السماء والأرض لإنزال المطر؛ لأنه مزيد ثار الغبار إذا هاج وانتشر ساطعًا، والسحاب جسم يملأه الله ماء كما شاء.
وصيغة المضارع مع مضيّ أرسل وسقنا؛ لحكاية الحال الماضية استحضارًا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال القدرة والحكمة، ولأن المراد بيان أحداثها لتلك الخاصيّة، ولذلك أسند إليها. ﴿فَسُقْنَاهُ﴾؛ أي: السحاب، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: فساقه؛ أي: ساق الله سبحانه ذلك السحاب وأجراه ﴿إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ﴾؛ أي: إلى مكان لا نبات فيه؛ لأنه هو الذي يحتاج إلى الماء، وقال: ﴿فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ﴾ التفاتا من الغيبة إلى التكلم دلالة على زيادة اختصاصه به تعالى، وإنَّ الكل منه، والوسائط أسباب.
وقال أبو عبيدة: مقتضاه: فتسوقه؛ لأنه قال أولًا: فتثير سحابًا، قيل: النكتة في التعبير بالماضيين بعد المضارع الدلالة على التحقق. اهـ. وقال: ﴿إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ﴾

(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon