والثاني: في ذكر حال غريبة، وبيانها للناس من غير قصدٍ إلى تطبيقها بنظيرة لها، والمعنى عليه: واذكر لهم وبيِّن لهم قصة هي في الغرابة كالمثل، فقوله: ﴿أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ﴾؛ أي: مثل أصحاب القرية على تقدير المضاف كقوله: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾، وهذا المقدر بدل من الملفوظ، أو بيان له.
وقوله: ﴿إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ بدل من أصحاب القرية بدل الاشتمال لاشتمال الظروف على ما حل فيها، كأنه قيل: واجعل وقت مجيء المرسلين مثلًا، أو بدل من المضاف المقدر، كأنه قيل: واذكر لهم وقت مجيء المرسلين، وهم رسل عيسى عليه السلام إلى أهل أنطاكية. والمعنى: أي (١): واجعل يا محمد أصحاب قرية أنطاكية مثلًا وشبهًا لهؤلاء المكذبين لك من أهل مكة؛ إذ أصروا على تكذيب الرسل الذين أرسلوا إليهم، كما أصر قومك على تكذيبك عنادًا واستكبارًا، والمشهور لدى المفسرين، ومنهم: قتادة وغيره: أن الرسل هم رسل عيسى عليه السلام من الحواريين، بعثهم إلى أهل أنطاكية، وكان منهم ما قصه الله علينا في كتابه، ويرى ابن عباس، واختاره كثير من أجلة العلماء أن الرسل هم رسل الله تعالى، أرسلهم ردءًا لعيسى عليه السلام، مقررِّين لشريعته، كهارون لموسى عليه السلام، ويؤيد هذا القول:
١ - قولهم: ﴿قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٧)﴾.
٢ - أنهم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا ولهم: ﴿مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾.
٣ - أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم، فقد كانوا أول أهل مدينة آمنت بالمسيح، ومن ثم كانت إحدى المدن الأربع اللاتي فيهم بطارقة النصارى، وهن: القدس وأنطاكية والاسكندرية ورومية؛ لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم ووطده، ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البطريق من رومية إليها.
واسم هذه القرية كما ذكرنا أولًا أنطاكية من قرى الروم، بفتح (٢) الهمزة وكسرها وسكون النون وكسر الكاف وفتح الياء المخففة، قاعدة بلاد يقال لها:

(١) المراغي.
(٢) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon