تسبيح الجبال معه، ولم يقل: مسبحات، للدلالة على تجدد التسبيح حالًا بعد حال، قال في «كشف الأسرار»: كان داود يسمع، ويفهم تسبيح الجبال على وجه تخصيصه به، كرامة له، ومعجزة، انتهى. واختلفوا في كيفية التسبيح، فقيل: بصوت يتمثل له، وهو بعيد، وقيل: بلسان الحال، وهو أبعد. وقيل: بخلق الله في جسم الجبل، حياة وعقلًا وقدرة ونطقًا، فحينئذ يسبح الله معه، كما يسبح الأحياء العقلاء، وهذا قول أهل الظاهر. وقال مقاتل: كان داود، إذا ذكر الله، ذكرت الجبال معه. انتهى. والظاهر: أن تسبيح الجبال مع داود على حقيقته، لكن لما كان على كيفية مخصوصة، وسماعه على وجه مخصوص، خارج عن العقول.. كان من معجزات داود عليه السلام وكراماته، وقد سبق مرارًا تحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه.
وقوله: ﴿بِالْعَشِيِّ﴾؛ أي: في آخر النهار ﴿وَالْإِشْراقِ﴾؛ أي: في أول النهار. متعلق بـ ﴿يُسَبِّحْنَ﴾. ووقت الإشراق حين تشرق الشمس؛ أي: تضيء ويصفو شعاعها، وهو وقت الضحى، وأما شروقها فطلوعها، يقال: شرقت الشمس، ولما تشرق، فكان داود يسبح عقب صلاته، عند طلوع الشمس، وعند غروبها،
١٩ - وقوله: ﴿وَالطَّيْرَ﴾ معطوف على ﴿الْجِبالَ﴾. وقوله: ﴿مَحْشُورَةً﴾ حال من الطير، والعامل فيه ﴿سَخَّرْنَا﴾؛ أي: وسخرنا الطير معه، حال كونها محشورة، مجموعة إليه من كل جانب، وناحية، وكانت الملائكة تحشر إليه ما امتنع عليه منها، كما في «كشف الأسرار»: عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان داود، إذا سبح، جاوبته الجبال بالتسبيح، واجتمعت إليه الطير فسبحت، وذلك حشرها. وقيل: كانت تجمعها الريح إليه، وإنما لم يراع المطابقة بين الحالين، بأن يقال: والطير يحشرن؛ لأن الحشر جملةً أدل على القدرة منه، متدرجًا كما يفهم من لفظ المضارع، وليس مرادًا، لأنه لم يرد أنها تحشر شيئًا فشيئًا، إذ حاشرها، هو الله تعالى، فحشرها جملة واحدة، أدل على القدرة، ذكره أبو حيان.
﴿كُلٌّ﴾؛ أي: كل واحد من الجبال والطير ﴿لَهُ﴾؛ أي: لأجل داود؛ أي: لأجل تسبيحه. فهو على حذف المضاف. ﴿أَوَّابٌ﴾؛ أي: رجاع إلى التسبيح، إذا


الصفحة التالية
Icon