ومزيد في الحلم، وتفهم أحوال الخصوم، ورباطة الجأش، وعظيم الصبر، والذكن الذي لا يتوافر لكثير من الناس.
وقال الشعبي (١): ﴿فَصْلَ الْخِطابِ﴾ هو قوله: أما بعد. وهو أول من قال: أما بعد، فإن من تكلم في الأمر الذي له شأن.. يفتتح بذكر الله، وتحميده، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق له.. فصل بينه وبين ذكر الله بقوله: أما بعد.
قضية من قضاياه التي حكم فيها
٢١ - ولما مدح الله سبحانه وتعالى داود عليه السلام، بما تقدم ذكره.. أردف ذلك بذكر هذه القصة الآتية، لما فيها من الأخبار العجيبة، فقال: ﴿وَهَلْ أَتاكَ﴾ وجاءك، ووصلك يا محمد ﴿نَبَأُ الْخَصْمِ﴾؛ أي: خبر تحاكم الخصم، وترافعهم إلى داود عليه السلام، والاستفهام هنا معناه: التعجب، والتشويق، إلى استماع ما في حيزه، للإيذان بأنه من الأخبار البديعة، التي حقها أن لا تخفى على أحد. والنبأ: الخبر العظيم الشأن. والخصم بمعنى: المخاصم، وأصل المخاصمة: أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر، بضم الخاء؛ أي: بجانبه، ولما كان الخصم في الأصل، مصدرًا متساويًا إفراده، وجمعه أطلق على الجمع في قوله تعالى: ﴿إِذْ تَسَوَّرُوا﴾؛ أي: إذ تسور الخصوم، وصعدوا أعلى سور الحصن، وحائطه، ونزلوا منه، ودخلوا ﴿الْمِحْرابَ﴾؛ أي: ودخلوا بعد نزولهم من فوق السور البيت، الذي كان داود يجلس فيه، ويشتغل بعبادة ربه، يقال: تسور المكان، إذا علا سوره، وسور المدينة: حائطها المحيط بها، وقد يطلق على حائط مرتفع، وهو المراد هنا. والمراد من المحراب: البيت الذي كان داود عليه السلام، يدخل فيه، ويشتغل بطاعة ربه، قيل: كان ذلك البيت غرفة، وسمي ذلك البيت محرابًا، لاشتماله على المحراب، على طريقة تسمية الشيء بأشرف أجزائه، و ﴿إِذْ﴾ متعلقة بمحذوف، وهو التحاكم الذي قدرنا أولًا؛ أي: هل أتاك نبأ تحاكم الخصم، إذ تسوروا المحراب؛ أي: تصعدوا سور الغرفة، ونزلوا إليه.