وصبّرهم على مفارقة الأوطان، فقال: ﴿وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ﴾ فمن (١) تعسر عليه التوفر على التقوى، والإحسان في وطنه. فليهاجر إلى حيث يتمكن فيه من ذلك، كما هو سنة الأنبياء، والمرسلين، والصالحين، فإنه لا عذر له في التفريط أصلًا؛ أي: إنكم إذا لم تتمكنوا من التوفر على الإحسان والتقوى، وصرف الهمم إلى العبادة في البلد الذي أنتم فيه، فتحولوا عنه إلى بلاد تستطيعون فيها ذلك، واجعلوا أسوتكم الأنبياء والصالحين، فقد فعل كثير منهم ذلك، وفيه حث على الهجرة من البلد الذي يظهر فيه المعاصي، وقد ورد: «إن من فر بدينه من أرض إلى أرض وجبت له الجنة»، وإنما قال: «بدينه» احترازًا عن الفرار بسبب الدنيا ولأجلها، خصوصًا إذا كان المهاجر إليه أعصى من المهاجر منه، وقيل المراد بالأرض هنا: أرض الجنة، رغّبهم في سعتها وسعة نعيمها، كما في قوله: ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ﴾. والأول أولى.
ثم ذكر ما لهم من رفيع المنزلة، وعظيم الأجر على ذلك. فقال: ﴿إِنَّما يُوَفَّى﴾ ويعطى ﴿الصَّابِرُونَ﴾ الذين صبروا على دينهم فلم يتركوه للأذى، وحافظوا على حدوده، ولم يفرطوا في مراعاة حقوقه، لما اعتراهم في ذلك من فنون الآلام، والبلايا التي من جملتها مهاجرة الأهل، ومفارقة الأوطان، والمعنى: يعطون ﴿أَجْرَهُمْ﴾ بمقابلة ما كابدوا من الصبر ﴿بِغَيْرِ حِسابٍ﴾؛ أي: بحيث لا يحصى، ولا يحصر؛ أي: يوفيهم الله، ويعطيهم أجرهم وافيًا كاملًا في مقابلة صبرهم بغير حساب؛ أي (٢): بما لا يقدر على حصره حاصر، ولا يستطيع حسابه حاسب. قال عطاء: بما لا يهتدي إليه عقل، ولا وصف، وقال مقاتل: أجرهم الجنة، وأرزاقهم فيها بغير حساب.
والحاصل: أن الآية تدل (٣) على أن ثواب الصابرين وأجرهم لا نهاية له؛ لأن كل شيء يدخل تحت الحساب فهو متناه، وما كان لا يدخل تحت الحساب.

(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.


الصفحة التالية
Icon