أيًا كان مقهور لا محالة، ما يقال (١): إن أول ما خلق درة بيضاء، فنظر إليها بالهيبة فذابت وصارت ماء، وارتفع زبدها، فخلق الله منه الأرض فافتخرت الأرض وقالت: من مثلي، فخلق الله الجبال فجعلها أوتادًا في الأرض، فقهر الأرض بالجبال، فتكبرت الجبال فخلق الحديد، وقهر الجبال به، فتكبر الحديد فقهره بالنار، فتكبرت النار فخلق الماء فقهرها به، فتكبر الماء فخلق السحاب، ففرق الماء في الدنيا فتكبر السحاب فخلق الرياح، ففرقت السحاب فتكبرت الرياح، فخلق الآدمي حتى جعل لنفسه بيتًا وكنًا من الحر والبرد والرياح، فتكبر الآدمي فخلق النوم فقهره به، فتكبر النوم فخلق المرض فقهره به، فتكبر المرض فخلق الموت فقهره به، فتكبر الموت فقهره بالذبح يوم القيامة، حيث يذبح بين الجنة والنار، كما قال تعالى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ﴾؛ يعني إذا ذبح الموت.. فالقاهر فوق الكل هو الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ ثم إن الكبر من أشد صفات النفس الأمارة بالسوء، فلا بد من إزالته
٢٨ - ولما استعاذ موسى عليه السلام بالله، واعتمد على فضله ورحمته.. فلا جرم صانه الله تعالى من كل بلية، وأوصله إلى كل أمنية، وقيض له إنسانًا أجنبيًا، حتى ذب عنه بأحسن الوجوه في تسكين تلك الفتنة، كما حكى الله تعالى عنه بقوله: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ﴾ كائن ﴿مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ فهو صفة ثانية لـ ﴿رَجُلٌ﴾ وقوله: ﴿يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾: صفة ثالثة، قدم الأول؛ أعني مؤمن، لكونه أشرف الأوصاف، ثم الثاني لئلا يتوهم خلاف المقصود، وذلك لأنه لو أخر عن ﴿يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾.. لتوهم أن ﴿من﴾ صلته، فلم يفهم أن ذلك الرجل كان من آل فرعون، وآل الرجل خاصته الذين يؤول إليه أمرهم للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين، وكان ذلك الرجل المؤمن من أقارب فرعون؛ أي: ابن عمه، وهو منذر موسى عليه السلام بقوله: ﴿إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ﴾، كما سبق في سورة القصص، واسمه شمعان بالشين المعجمة بوزن سلمان، وهو أصح ما قيل فيه، قاله الإِمام السهيلي.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿رَجُلٌ﴾ بضم الجيم، وقرأ عيسى وعبد الوارث وعبيد بن عقيل، وحمزة بن القاسم عن أبي عمرو: بسكون الجيم، وهي لغة تميم ونجد،

(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.


الصفحة التالية
Icon