وكان عرش الرحمن قبل خلق السموات والأرض على الماء، كما قال الله تعالى: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾، فلما أراد الله سبحانه وتعالى أن يخلق السموات والأرض.. أمر الريح فضربت الماء فاضطرب الحاء اضطرابًا شديدًا فأزبد وارتفع، فخرج منه دخان، فأما الزبد: فبقي على وجه الماء، فخلق فيه اليبوسة، وأحدث منه الأرض، وأما الدخان: فارتفع وعلا، فخلق منه السموات.
فإن قلت: هذه (١) الآية مشعرة بأن خلق الأرض كان قبل السماء، وقوله: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (٣٠)﴾ مشعر بأن خلق الأرض بعد خلق السماء، فكيف الجمع بينهما؟
قلت: الجواب المشهور: أنه تعالى خلق الأرض أولًا، ثم خلق السماء بعدها، ثم بعد خلق السماء دحا الأرض ومدّها، وفيه جواب آخر، وهو أن يقال: إن خلق السماء مقدم على خلق الأرض، فعلى هذا يكون معنى الآية خلق الأرض في يومين، وليس الخلق عبارةً عن الإيجاد والتكوين فقط، بل هو عبارة عن التقدير أيضًا، فيكون المعنى: قضى أن يحدث الأرض في يومين بعد إحداث السماء، فعلى هذا يزول الإشكال. والله أعلم بالحقيقة.
ولعل تقديم (٢) بيان ما يتعلق بالأرض وأهلها، لما أن بيان اعتنائه تعالى بأمر المخاطبين، وترتب مبادي معايشهم قبل خلقهم، مما يحملهم على الإيمان، ويزجرهم عن الكفر والطغيان.
﴿فَقَالَ لَهَا﴾؛ أي: للسماء ﴿وَلِلْأَرْضِ﴾ التي قدر وجودها، ووجود ما فيها: ﴿ائْتِيَا﴾؛ أي: كُونا واحدُثَا على وجه معين، وفي وقت مقدر لكل منكما، وهو عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوجودهما تعلقًا فعليًا، بطريق التمثيل، بعد تقدير أمرهما، من غير أن يكون هناك آمر ومأمور، كما في قوله: ﴿كُن﴾ بأن شبه تأثير قدرته فيهما، وتأثرهما عنها بأمر آمر نافذ الحكم يتوجه نحو المأمور المطيع، فيتمثل أمره، فعبر عن الحالة المشبهة بما يعبر به عن الحالة المشبهة بها.
ومعنى ﴿ائْتِيَا﴾ (٣): افعلا ما آمركما به، وجيئا به، كما يقال: ائت ما هو

(١) الخازن.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.


الصفحة التالية
Icon