تشهد عليكم جوارحكم بذلك، لأنها كانت أجسامًا صامتة غير ناطقة، ولم يكن في حسابكم ما استقبلكم، كما كنتم تستترون من الناس بالحيطان والحجب وظلمة الليل، مخافة الافتضاح عندهم، بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء رأسًا، فضلًا عن شهادة الأعضاء، وفيه تنبيه على أنّ المؤمن ينبغي أن يتحقق أن لا يمرّ عليه حال إلا وعليه رقيب، وأن الله معه أينما كان. وفي الحديث: "أفضل إيمان المرء: أن يعلم أن الله معه حيث كان".
وقيل: هذا من كلام الجلود، وبختهم على ما كانوا يفعلون في الدنيا، فقالت لهم: ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ﴾ إلخ؛ أي (١): وما كنتم تستخفون حين تفعلون قبيح الأعمال، وترتكبون عظيم الفواحش بالحيطان والحجب، حذرًا من شهادة الجوارح عليكم، بل كنتم تجاهرون بالكفر والمعاصي، وتجحدون البعث والجزاء، قال عبد الأعلي بن عبد الله الشاميّ فأحسن:

الْعُمْرُ يَنْقُصُ وَالذُّنُوْبُ تَزِيْدُ وَتُقَالُ عَثْرَاتُ الْفَتَى فَيَزِيْدُ
هَلْ يَسْتَطِيْعُ جُحُوْدَ ذَنْبٍ وَاحِدٍ رَجُلٌ جَوَارِحُهُ عَلَيْهِ شُهُوْدُ
وَالْمَرْءُ يُسْأَلُ عَنْ سِنِيْهِ فَيَشْتَهِيْ تَقْلِيْلَهَا وَعَنِ الْمَمَاتِ يَحِيْدُ
ولما كان (٢) الإنسان لا يقدر على أن يستخفي من جوارحه عند مباشرة المعصية.. كان معنى الاستخفاء هنا ترك المعصية، وقيل: معنى الاستتار: الاتقاء؛ أي: ما كنتم تتقون في الدنيا، أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة، فتتركوا المعاصي خوفًا من هذه الشهادة ﴿وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ﴾ عند استتاركم من الناس مع عدم استتاركم من أعضائكم ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه ﴿لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ من المعاصي فاجترأتم على فعلها، قيل: كان الكفار يقولون: إن الله لا يعلم ما في أنفسنا، ولكن يعلم ما تظهر دون ما نسرُّ.
والخلاصة: أنكم كنتم في الدنيا تستترون عن الناس خوف الفضيحة والعار حين ارتكاب الذنوب، وما ظننتم أنَّ أعضاءَكم وجسمكم الأثيريّ الذي هو على صورة الجسم الظاهريّ قد سطّرت فيه جميع أعمالكم، كأنه لوح محفوظ، فلذلك ما
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.


الصفحة التالية
Icon