تقديم المسند إليه، وهو نحن، إذ هو للاختصاص.
والحاصل (١): نحن قسمنا أرزاقهم فيما بينهم، وهو أدنى من الرسالة، فلم نترك اختيارها إليهم وإلا لضاعوا وهلكوا فما ظنهم في أمر الدين؛ أي: فكيف نفوض اختيار ما هو أفضل وأعظم، وهو الرسالة، وليس لأحد من العباد أن يتحكم في شيء، بل الحكم لله وحده؟ وإذا كان الله سبحانه، هو الذي قسم بينهم أرزاقهم، ورفع درجات بعضهم على بعض، فكيف لا يقنعون بقسمته في أمر الرسالة وتفويضها إلى من يشاء من خلقه؟
قال مقاتل: يقول تعالى: أبأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاؤوا! وفي قوله (٢): ﴿قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ﴾ تزهيد في الإكباب على طلب الدنيا، وحث على التوكل على الله تعالى. وقرأ الجمهور: ﴿مَعِيشَتَهُمْ﴾ بالإفراد، وعبد الله والأعمش وابن عباس ومجاهد وابن محيصن وسفيان ﴿معائشهم﴾ على الجمع.
﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ﴾ في الرزق وسائر مبادىء المعاش ﴿دَرَجَاتٍ﴾ نصب (٣) بنزع الخافض؛ أي: إلى درجات متفاوتة، بحسب القرب والبعد، حسبما تقتضيه الحكمة، فمن ضعيف وقوي وفقير وغني وخادم ومخدوم وحاكم ومحكوم، أو تمييز محول عن المفعول ﴿لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾؛ أي: خادمًا وعاملًا وأجيرًا من التسخير، بمعنى: الاستخدام، ولكون المراد هنا الاستخدام دون الهزء؛ لأنه لا يليق التعليل به، أجمع القراء على ضم السين في الرواية المشهورة عنهم، فما كان من التسخير فهو مضموم، وما كان من الهزء فهو مكسور، وقرأ الجمهور (٤): ﴿سُخْرِيًّا﴾ بضم السين، وعمرو بن ميمون وابن محيصن وابن أبي ليلى وأبو رجاء والوليد بن مسلم، وابن عامر بكسرها، وهو من التسخير بمعنى الاستعباد والاستخدام والاستعمال. ويبعد أن يكون ﴿سُخْرِيًّا﴾ هنا من الهزء، وقد قال بعضهم؛ أي: يهزأ الغني بالفقير، وهذا وإن كان مطابقًا

(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
(٤) البحر المحيط.


الصفحة التالية
Icon