فتكون المخلوقية فيه أظهر من الأول، هكذا لاح بالبال، والله أعلم بحقيقة الحال.
ومعنى الآيتين (١): أي إن هذا الكتاب الكريم، أنزله العزيز الغالب، القاهر لكل شيء، الحكيم في تدبيره لكل ما خلق، فهو سبحانه مع قهره للعوالم المادية، والروحية، لا يتصرف إلا بالحكمة كما يشاهد في النبات والحيوان والأجسام الإنسانية، ودوران الكواكب وانتظامها في سيرها، فكل ذلك من القهر والغلبة لها مع الحكمة في صنعها، ومن ثم، أعقب ذلك بنتائج العزة والحكمة، فقال: إن في السموات السبع، اللاتي منهن ينزل الغيث، وفي الأرض التي منها يخرج الخلق، لأدلةً واضحةً للمصدقين بالحجج، إذا تأملوها، وفكروا فيها تفكير من سلك السبيل القويم، فيرتب المقدمات ليصل منها إلى النتائج التي هي لازمة لها، بحكم النظام الفكري، والترتيب العقلي.
٤ - وبعد أن ذكر الأدلة الكونية التي في الآفاق، أتبعها بذكر الأدلة التي في الأنفس، فقال: ﴿وَفِي خَلْقِكُمْ﴾ أنفسكم أيها الإنسان من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة متقلبة في أطوار، مختلفة إلى تمام الخلق ﴿وَ﴾ في خلق ﴿مَا يَبُثُّـ﴾ ـه الله سبحانه وتعالى وينشره، ويفرقه في الأرض، حال كونه ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ وحيوانات تدب على الأرض، وما الموصولة معطوفة على المضاف إليه، والمعنى: وفي خلق ما ينشره الله تعالى، ويفرقه من دابة، وهي كل ما يدب على وجه الأرض من الحيوان مع اختلاف صورها، وأشكالها، وكئرة أنواعها، وأضمر ذكر الله هنا، لقرب العهد منه بخلافه في قوله: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ كما سيأتي. ﴿آيَاتٌ﴾ بالرفع على أنه مبتدأ مؤخر، خبره الظرف المقدم، والجملة معطوفة على ما قبلها من الجملة المصدرة بإنّ ﴿لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾؛ أي: لقوم من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هي عليه، واليقين علم فوق المعرفة والدراية، ونحوهما، وبينه وبين الإيمان فروق كثيرة، وحقيقة الإيمان هو اليقين، حين باشر الأسرار بظهور الأنوار، ألا ترى كيف سأل رسول الله - ﷺ - بقوله: "اللهم إني أسألك إيمانًا يباشر قلبي، ويقينًا ليس بعده كفر".