فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ النبيّ - ﷺ - بعث سريّة إلى قوم من بني عنبر جماعة من خزاعة، وأمّر عليهم عيينة بن حصن الفزاريّ، فسار إليهم، فلمّا بلغهم أنه خرج إليهم.. فرّوا وهربوا، وتركوا عيالهم وأموالهم، فسبى ذراريَّهم، وجاء بهم إلى النبيّ - ﷺ -، فجاء بعد ذلك رجالهم ليفادوا ذراريهم، فدخلوا المدينة عند القيلولة، ووافقوا النبي - ﷺ - قائلًا عند أهله، فلمّا رأتهم الذراريّ.. أجهشوا يبكون، فنادوا النبيّ - ﷺ -: يا محمد أخرج إلينا، حتى أيقظوه من نومه، فخرج إليهم، فقالوا: يا محمد فادنا عيالنا، فنزل جبريل عليه السلام فقال: إنّ الله تعالى يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلًا، فقال لهم رسول الله - ﷺ -: "أترضون أن يكون بيني وبينكم شبرمة بن عمرو، وهو على دينكم" فقالوا: نعم. فقال شبرمة: أنا لا أحكم بينهم وعمي شاهد، وهو أعور بن بسَّامة بن ضرار، فرضوا بالأعور، فقال الأعور: فانا أرى أن تفادي نصفهم، وتعتق نصفهم، فقال رسول الله - ﷺ -: "قد رضيت" ففادى نصفهم وأعتق نصفهم، ولو صبروا.. لأعتق جميعهم بغير فداء، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ﴾.
﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾؛ أي: بليغ المغفرة والرحمة واسعهما، فلن تضيق ساحته عن هؤلاء المسيئين للأدب إن تابوا وأصلحوا.
ومعنى الآية (١): أي وّلو أنَّ هؤلاء الذين ينادونك من وراء الحجرات صبروا، ولم ينادوك حتى تخرج إليهم.. لكان خيرًا لهم عند الله تعالى؛ لأنّه قد أمرهم بتوقيرك وتعظيمك، والله ذو عفو عمّن ناداك من وراء الحجاب، إن هو تاب من معصيته بندائك كذلك، وراجع أمر الله في ذلك وفي غيره، رحيم به أن يعاقبه على ذنبه ذلك من بعد توبته منه.
والخلاصة (٢): أنّ الله تعالى هجَّن الصياح برسول الله - ﷺ - في حال خلوف من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدرًا لينبه إلى فظاعة ما جسروا عليه؛ لأنَّ من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول، يكون صنيع مثل هؤلاء معه من

(١) المراغي.
(٢) المراغي.


الصفحة التالية
Icon