حتى قال علماء الأرواح: إنهم لما خاطبوا الأرواح قالت لهم: إنكم كثيرًا ما يظهر لكم عجائب روحية، فتظنونها من الوهم، وتنسبونها إلى خداع الحواس.. أعقب سبحانه هذا بما دل على أنه - ﷺ - لم يقم بنفسه أن هذا تخيل، ولا أنه وهم، فقال: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (١١)﴾؛ أي: ما كذب فؤاد محمد - ﷺ - ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام؛ أي: إن فؤاده - ﷺ - ما قال لما رآه ببصره: "لم أعرفك"، ولو قال ذلك لكان كاذبًا. لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره.
والخلاصة: أنه لما قال: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤)﴾ أكد هذا المعنى، وفصله بقوله: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥)﴾ ليبين أنه ليس من الشعر، ولا من الكهانة في شيء. ولما قال: ﴿فَاسْتَوَى﴾، وذكر قيامه بصورته الحقيقية أكد أن مجيئه بصورة دحية الكلبي لا يعمي وصفه. إذ قد عرفه بشكله الحقيقيّ من قبل، فلا يشتبه عليه. وقوله: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨)﴾ تتميم لحديت نزوله عليه السلام، وإتيانه بالمنزل. وقوله: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (١١)﴾ بين به أنه لما عرفه وحققه لم يكذبه فؤاده بعد ذلك في أنه جبريل، ولو تصور بغير تلك الصورة.
١٢ - والهمزة في قوله: ﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (١٢)﴾ للاستفهام التقريري التوبيخي، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف. والتقدير: أتكذبون محمدًا - ﷺ - أيها المشركون، فتجادلونه على ما يراه معاينة من صورة جبريل عليه السلام وغيره، وذلك أنهم جادلوه حين أسري به، فقالوا: صف لنا مسجد بيت المقدس؛ أي: فأتجادلونه جدالًا ترومون به دفعه عما شاهده وعلمه.
وقرأ الجمهور: ﴿أَفَتُمَارُونَهُ﴾؛ أي: أتجادلونه على شيء رآه ببصره، وأبصره. وعدى بعلى لما في الجدال من المغالبة. وجاء ﴿يَرَى﴾ بصيغة المضارع وإن كانت الرؤية قد مضت إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد. وقرأ علي، وعبد الله، وابن عباس، والجحدري، وبعقوب، وابن سعدان، وحمزة، والكسائي: ﴿أفتَمْرُونَه﴾ بفتح التاء وسكون الميم، مضارع مريت؛ أي: جحدت، يقال: مريته حقه إذا جحدته. وقرأ عبد الله فيما حكى ابن خالويه، والشعبي فيما ذكر شعبة ﴿أَفَتُمْرُونَه﴾ بضم التاء وسكون الميم، مضارع أمريت؛ أي: أتريبونه، وتشكون فيه. قال أبو حاتم: وهو غلط.