وقوله: ﴿الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ وصف لمناة، وصفها بأنها ثالثة تأكيدًا؛ لأنّها لما عطفت عليهما علم أنها ثالثتهما. والأخرى صفة ذمٍّ لها، وهي المتأخرة الوضيعة المقدار؛ أي: مناة الحقيرة الذليلة، لأنَّ الأخرى تستعمل في الضعفاء كقوله تعالى: ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ﴾؛ أي: ضعفاؤهم لرؤسائهم. وذلك لأن اللات كان وثنًا على صورة آدمي، والعزى صورتها صورة شجرة سمرة. ومناة صورتها صورة صخرة. فالآدمي أشرف من النبات، وهو أشرف من الجماد، وهو متأخر.
فالمناة في أخريات المراتب. قال أبو البقاء: فالوصف بالأخرى للتأكيد. وقد استشكل وصف الثالثة بالأخرى، والعرب إنما تصف به الثانية. فقال الخليل: إنما قال ذلك لوفاق رؤوس الآي، كقوله: ﴿مأرب أخرى﴾. وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير. والتقدير: أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة.
وقرأ الجمهور (١): ﴿اللَّاتَ﴾ خفيفة التاء. وابن عباس، ومجاهد، ومنصور بن المعتمر، وأبو صالح، وطلحة، وأبو الجوزاء، ويعقوب، وابن كثير في رواية بشدها. وقرأ الجمهور ﴿مناة﴾ مقصورًا، فقيل: وزنها فعلة، واشتقاقها من مني يمني؛ أي: صب. لأن دماء النسائك تصب عندها يتقربون بذلك إليها. وقرأ ابن كثير ﴿ومناءة﴾ بالمد والهمزة، ووزنها مفعلة، والألف منقلبة من واو، والهمزة أصل؛ لأنها مشتقة من النوء. وهو المطر؛ لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركًا بها. والقصر أشهر، وهي قراءة الجمهور.
والمعنى (٢): أي فبعد أن سمعتم ما سمعتم من آثار كمال الله عزّ وجلّ، وعظمته في ملكه، وملكوته، وجلاله، وجبروته، وأن الملائكة على رفعة مقامهم، وعلو قدرهم ينتهون إلى السدرة، ويقفون عندها تجعلون هذه الأصنام على حقارة شأنها شركاء لله مع ما علمتم من عظمته. وفي هذا تقريع شديد، وتوبيخ عظيم، وتأنيب لا إلى غاية. وإن العاقل لا ينبغي أن يخطر بباله مثل هذا، ويمتهن رأيه إلى هذا الحد.
٢١ - وبعد أن أنبهم على سخف عقولهم، وسفاهة أحلامهم بعبادتهم الأصنام التي

(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.


الصفحة التالية
Icon