ثم أكد ما سلف بقوله: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ﴾ فيه (١) التفات من الخطاب إلى الغيبة للإيذان بأن تعداد قبائحهم اقتضى الإعراض عنهم، وحكاية جناياتهم لغيرهم، أي: ما يتبعون فيما ذكر من التسيمة والعلم بموجبها ﴿إِلَّا الظَّنَّ﴾ الذي لا يغني من الحقّ شيئًا، أي: إلا توهم أن ما هم عليه حق توهمًا باطلًا ﴿وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ﴾؛ أي: وما تشتهيه أنفسهم الأمّارة بالسوء، من غير التفاف إلى ما هو الحقّ الذي يجب الأتباع له. فما موصولة، ويجوز كونها مصدرية. والألف واللام بدل من الإضافة، وهو معطوف على الظنّ.
وقرأ الجمهور: (٢) ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ﴾ بياء الغيبة. وقرأ عيسى بن عمر، وأيوب، وابن السميقع بالفوقية على الخطاب. ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود، وابن عباس، وطلحة، وابن وثّاب، والأعمش.
وفي "فتح الرحمن": قوله: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ ذكره هنا (٣)، وفيما بعد، وليس بتكرار. لأنَّ الأول متصل بعبادتهم الأصنام اللات، والعزى، ومناة، والثاني بعبادتهم الملائكة، والظن فيها مذموم بقوله: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾؛ أي: لا يقوم مقام العلم. فإن قلت: كيف لا يقوم مقامه مع أنه يقوم مقامه في كثير من المسائل، كالقياس؟.
قلت: المراد هنا: الظن الحاصل من اتباع الهوى، دون الظن الحاصل من الاستدلال والنظر بقرينة قوله: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ﴾ انتهى.
والمعنى (٤): أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم، وإلا حظوظ نفوسهم في رياستهم، وتعظيم آبائهم الأقدمين.
والخلاصة: إنكم تعبدون هذه الأصنام توهمًا منكم أنّ ما عليه أباؤكم حق، واتباعًا لشهوات أنفسكم.
ثم بين أنه ما كان ينبغي لهم ذلك، لأنّه قد جاءهم ما ينبههم إلى سوء رأيهم

(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) فتح الرحمن.
(٤) المراغي.


الصفحة التالية
Icon