الآخرة ما هو إلا شأن من الشؤون، فلا يشغله شأن عن شأن، وهو القائل: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)﴾، والقائل: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠)﴾. فبأيّ نعم ربكما تكذبان يا معشر الثقلين. ومن جملتها التنبيه إلى ما ستلقونه من الجزاء في هذا اليوم تحذيرًا مما سيؤدي إلى سوء الحساب، وشديد العقاب.
٣٣ - ثم ذكر أنه لا مهرب في هذا اليوم من جزاء كل عامل على عمله، فقال: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾؛ أي: يا جماعة الإنس والجنّ. وهذا (١) كالترجمة لقوله: ﴿أَيُّهَ الثَّقَلَانِ﴾ خوطبا باسم جنسهما لزيادة التقرير؛ ولأنّ الجن مشهورون بالقدرة على الأفاعيل الشاقة. فخوطبوا بما ينبىء عن ذلك؛ لبيان أن قدرتهم لا تفي لما كلفوه. والمعشر: الجماعة العظيمة، كما سيأتي في مبحث اللغة. وقدم الجن على الإنس في هذه الآية لتقدم خلقه. لأن أباهم الجان خلق قبل آدم. وقدم الإنس على الجن في قوله: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ﴾ لفضله. فإن التقديم يقتضي الأفضلية.
قال ابن الشيخ: لما بين الله تعالى أنه سيجيء وقت يتجرد فيه لمحاسبتهم ومجازاتهم، وهددهم بما يدل على شدة اهتمامه بها، كان مظنة أن يقال: فلم ذلك مع ما له من كمال الاهتمام به؟ فأشار إلى جوابه بما محصوله: هم جميعًا في قبضة قدرته وتصرفه، لا يفوته منهم أحد، فلم يتحقق باعث يبعثه على الاستعجال؛ لأن ما يبعث المستعجل إنما هو خوف الفوات، وحيث لم يخف ذلك قسم الدهر كله إلى قسمين. أحدهما: مدة أيام الدنيا، والآخر: يوم القيامة. وجعل المدة الأولى أيام التكليف والابتلاء، والمدة الثانية للحساب والجزاء. وجعل كل واحدة من الدارين محل الرزايا، والمصائب، ومنبع البلايا، والنوائب. ولم يجعل لواحد من الثقلين سبيلًا للفرار منهما، والهرب مما قضاه فيهما. فقوله: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ متعلق بقوله: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ﴾، فكانا بمنزلة كلام واحد.
﴿إِنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾ لم يقل (٢): إن استطعتما بلفظ التثنية؛ لأن كل واحد منهما فريق، كقوله: ﴿فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ﴾؛ أي: كل فريق منهم يختصم فجمع الضمير هنا نظرًا إلى معنى الثقلين، وثناه في قوله: ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا﴾ كما سيأتي نظرًا

(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon