كفاء ما قاسوا به من جليل الأعمال في الدنيا، وما حرموا منه أنفسهم من لذاتها، وما صبروا عليه من مكارهها ابتغاء رضوانه. وهم فيها قريرو الأعين، طيبو النفوس، لا يشغلهم شاغل، ولا يجدون هما ولا نصبًا، ولا يكدر صفو عيشهم مكدر.
وقوله: ﴿فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾ لبيان (١) أنَّ حالهم كحال من يتمتع بالبستان، لا كالناطور الذي يحرسه. وقوله: ﴿فَاكِهِينَ﴾ إشارة إلى أن قلوبهم لا يشغلها هم ولا نصب، بل هم في لذة وسرور وفرح وحبور.
ثم ذكر أنهم تمتعوا بنعمة أخرى قبل هذه فقال: ﴿وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ والوقاية: حفظ الشيء مما يؤذيه، ويضره. والجحمة: شدة تأجج النار، ومنه الجحيم؛ أي: جهنم؛ لأنه من أسمائها. وهو معطوف على ﴿آتَاهُمْ﴾ على أنّ "ما" مصدرية؛ أي: متلذذين بسبب إيتاء ربهم، ووقايتهم عذاب الجحيم. فإنها إن جعلت موصولة يكون التقدير: بالذي وقاهم ربهم عذاب الجحيم، فيبقى الموصول بلا عائد، أو معطوف على خبر إنّ، أو الجملة في محل نصب على الحال بإضمار قد. وإظهار الرب في موضع الإضمار مضافًا إلى ضميرهم للتشريف والتعليل. وقرأ أبو حيوة ﴿ووقّاهم﴾ بالتشديد.
١٩ - وقوله: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ على إضمار القول؛ أي: يقال لهم من قبل خزنة الجنة دائمًا: كلوا واشربوا أكلا وشربًا. ﴿هَنِيئًا﴾؛ أي: مأمون العاقبة من التخم والسقم. فـ ﴿هنيئًا﴾ صفة لمصدر محذوف، أو طعاما وشرابا هنيئًا. فهو صفة مفعول به محذوف. فإنّ في ترك ذكر المأكول والمشروب دلالة على تنوعهما وكثرتهما. ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: بسبه أو بدله (٢). وقيل: الباء زائدة، و"ما" فاعل هنيئًا. والمعنى عليه: هناكم ما كنتم تعملون؛ أي: جزاؤه.
والمعنى (٣): كلوا مما رزقكم ربكم من الطيبات، واشربوا مما لذ وطاب بلا تعب في تحصيل الطعام والشراب، وبلا داء في تناولهما، وبلا خوف نفاد، وبلا إثم كما تشاهدون ذلك في طعام الدنيا وشرابها كفاء ما قدمتم من صالح الأعمال،

(١) روح البيان.
(٢) البيضاوي.
(٣) المراح.


الصفحة التالية
Icon