وآثرتم من تعب الدنيا لراحة الآخرة. فلا منَّ عليكم في هذا اليوم، وإنما منتي عليكم في الدنيا إذ هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة؛ لأنّ هذا إنجاز الوعد.
قيل للربيع بن خيثم، وقد صلى طوال الليل: أتعبت نفسك، فقال: راحتها أطلب. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (٢٤)﴾.
وفي قوله: ﴿هَنِيئًا﴾ إشارة (١) إلى خلو المآكل والمشارب مما ينغصهما، فإنّ الآكل قد يخاف المرض فلا يهنأ له الطعام، أو يخاف النفاد فيحرص عليه، أو يتعب في تحصيله وتهيئته بالطبخ والإنضاج، ولا يكون شيء من هذا في الآخرة.
وفي قوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ إيماء إلى أن هذا إنجاز لما وعدهم ربهم به في الدنيا، فلا من عليهم فيه، بل كان المن عليهم في الدنيا بهدايتهم للإيمان. وتوفيقهم لصالح الأعمال. كما قال: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ﴾.
٢٠ - ثمّ ذكر ما يتمتعون به من الفرش، فقال: ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ حال من الضمير في ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ أي: معتمدين ومستندين ﴿عَلَى سُرُرٍ﴾ جمع سرير. وفي الكلام حذف، تقديره: متكئين على نمارق على سرر مصفوفة. وهو الذي يجلس عليه. وهو من السرور إذا كان ذلك لأولى النعمة. وسرير الميت تشبيه به في الصورة، وللتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى الله، وخلاصه من سجنه المشار إليه بقوله - ﷺ -: "الدنيا سجن المؤمن". وقرأ أبو السَّمال (٢): ﴿على سرر﴾ بفتح الراء. وهي لغة لكلب في المضعف فرارًا من توالي ضمّتين مع التضعيف.
﴿مَصْفُوفَةٍ﴾؛ أي: مصطفة، قد صف بعضها إلى جنب بعض، أو مرمولة؛ أي: مزينة بالذهب، والفضة، والجواهر. والظاهر (٣): أنّ جمع السرر مبني على أن يكون لكل واحد منهم سرر متعددة مصطفة معدة لزائريهم. فكل من اشتاق إلى صديقه يزوره في منزله.
قال الكلبيّ: طولها مئة ذراع في السماء؛ يتقابلون عليها في الزيارة، وإذا أراد

(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon