وقوله تعالى: ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ تعجيب من حالهم؛ أي: كيف يصرفون عن الحق والنور إلى ما هم عليه من الكفر والضلال والظلمة بعد قيام البرهان.
والمعنى: قاتلهم الله بالخزي والحرمان والسوء والخذلان، كيف يعدلون عن طريق الدين الصدق وعن سبيل الهدى والرشد؟
ومعنى: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ...﴾ إلى آخر الآية؛ أي (١): كلما نادى مناد في العسكر، أو انفلتت دابة، أو نشدت ضالة.. ظنوا أن العدو قد فاجأهم وأن أمرهم قد افتضح، وأنهم هالكون لا محالة. وقد قالوا: يكاد المريب يقول: خذوني، ويكاد السارق يقول إذا رأى القيد: ضعوه في يدي؛ لما ألقي من الرعب في قلوبهم. فهم يخافون أن تهتك أستارهم وتكشف أسرارهم، ويتوقعون الإيقاع بهم ساعة فساعة. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾. وقد نظر المتنبي إلى الآية في قوله:

وَضَاقَتْ الأَرْضُ حَتَّى كَانَ هَارِبُهُمْ إِذَا رَأَى غَيْرَ شِيْءٍ ظَنَّهُ رَجُلًا
﴿هُمُ الْعَدُوُّ﴾ الذي بلغ الغاية في العداوة، ﴿فَاحْذَرْهُمْ﴾ ولا تأمنهم على سر، ولا تلتفت إلى ظاهرهم. فقلوبهم متحرقة حسدًا وبغضًا، وأعدى الأعادي: العدو والمداجي، الذي يكاشرك - يبتسم لك - وتحت ضلوعه الداء الدوي والشر المستطير.
ثم زاد سبحانه في ذمهم وتوبيخهم وعجب من حالهم، فقال: ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: لعنهم الله وطردهم من رحمته، فما أفظع حالهم وما أشدهم غفلة عن مآلهم. وهذا تعليم منه لعباده المؤمنين أن يلعنوهم. فكأنه قال: قولوا: قاتلهم الله. ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾؛ أي: كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل؟ وقد كان لهم مدكر فيما حولهم وفيما أمامهم من صدق الداعي بما أتى به من البينات الدالة على أنه مرسل من ربه. وإن تعجب من شيء.. فاعجب من جهالتهم وظنهم الفاسد أنهم على الحق، فما أعظمها محنة وأعجب بهم نقمة، جازاهم الله بها على سوء
(١) المراغي.


الصفحة التالية
Icon