عن طاعتي واتباعي، وأخذتهم العزة في ذلك. ﴿اسْتِكْبَارًا﴾ شديدًا؛ لأنهم قالوا: ﴿أَنُؤمنُ لَكَ وَاَتبَعَكَ اَلأَرذَلُونَ﴾.
والمعنى: أي وإنّي كلّما دعوتهم إلى الإقرار بوحدانيتك والعمل بطاعتك، والبراءة عن عبادة كلّ ما سواك لتغفر لهم ذنوبهم سدّوا مسامعهم حتى لا يسمعوا دعائي، وتغطوا بثيابهم كراهة النظر إليَّ، وأكبّوا على الكفر والمعاصي، وتعاظموا عن الإذعان للحق وقبول ما دعوتهم إليه من النصح.
٨ - ثم بين أنه ما ترك وسيلة في الدعوة إلا فعلها، قال: ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ﴾ دعوة ﴿جِهَارًا﴾؛ أي: بأعلى صوتي. والجهر: ظهور الشيء بإفراط لحاسة البصر أو حاسة السمع؛ أي: رفعت صوتي لهم بالدعوة رفعًا بليغًا بحيث يسمعه القريب والبعيد.
٩ - ﴿ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ﴾ وأظهرت ﴿لَهُمْ﴾ الدعوة مجتمعين ﴿وَأَسْرَرتُ﴾ أي: أخفيت ﴿لَهُمْ﴾ الدعوة منفردين ﴿إِسْرَارًا﴾؛ أي: إخفاء بحيث لا يسمعها غير المدعوّ.
وفي هذا إشارة إلى ذكر عموم الحالات بعد ذكر عموم الأوقات؛ أي: دعوتهم تارة بعد تارة ومرّة غبّ مرّة على وجوه متخالفة وأساليب متفاوتة. و ﴿ثُمَّ﴾ لتفاوت الوجوه، فإنّ الجهر أشد عن الإسرار، والجمع بينهما أغلظ من الإفراد. والإعلان ضدّ الإسرار، يقال: أسررت إلى فلان حديثًا: أفضيت به إليه في خفية؛ أي: عن غير اطلاع أحد عليه. وجهرت به أظهرته بحيث اطلع عليه الغير. ويجوز أن يكون ﴿ثُمَّ﴾ لتراخي بعض الوجوه عن بعض بحسب الزمان بأن ابتدأ بمناصحتهم ودعوتهم في السرّ، فعاملوه بالأمور الأربعة، وهي: الجعل والتغطي والإصرار والاستكبار. ثمّ ثنى بالمجاهرة بعد ذلك، فلما لم يؤثر جمع بين الإعلان والإسرار؛ أي: خلط دعاءه بالعلانية بدعاء السرّ، فكما كلمهم جميعًا كلمهم واحدًا واحدًا سرًّا. فالجهر: النداء بالدعوة ورفع الصوت بها بلا دخول مجمعهم، والإعلان: إظهار الدعوة في مجامعهم، والإسرار: الدعوة لكل واحد منهم فردًا فردًا خفية بحيث لا يسمعه الغير.
وفي بعض التفاسير: أنّ نوحًا عليه السلام (١) لما آذوه بحيث لا يوصف حتى

(١) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon