والخلاصة: أنّ لدنيا في الآخرة ما يضادّ تنعمهم في الدنيا، وهو النكال والجحيم والطعام الذي يغصون به، والعذاب الأليم. وعن الحسن: أنه أمسي صائمًا فأتي بطعام، فعرضت له هذه الآية، فقال: ارفعه، ووضع عنده الليلة الثانية، فعرضت له، فقال: ارفعه، وكذلك الليلة الثالثة، فأخبر ثابت البنانيّ ويزيد الضبّيّ ويحيى البكاء، فجاؤوا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق.
١٤ - وبعد أن وصف العذاب ذكر زمانه فقال: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ﴾ وتضطرب وتتحرك ﴿الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ﴾ وانتصاب (١) الظرف إمّا بـ ﴿ذرني﴾ أو بالاستقرار المتعلق به لدينا أو صفة لـ ﴿عذابا﴾، فيتعلق بمحذوف؛ أي: عذابًا واقعًا يوم ترجف الأرض، أو متعلق بـ ﴿أَلِيمًا﴾. وقرأ الجمهور ﴿أَلِيمًا﴾ بفتح التاء وضم الجيم مبنيًّا للفاعل. وقرأ زيد بن علي بضمها مبنيًا للمفعول، مأخوذ من أرجفها، أي: إنَّ لدينا أنكالًا وجحيمًا وعذابًا أليمًا يوم تتحرك وتضطرب الأرض والجبال بمن عليها، وتتزلزل زلزلةً شديدة بهيبة الله وجلاله؛ ليكون علامة يخطيء القيامة وأمارة لجريان حكم الله في مؤاخذة العاصين. والرجفة: الزلزلة، والزعزعة الشديدة. وأفرد (٢) الجبال بالذكر مع كونها من الأرض لكونها أجسامًا عظامًا أوتادًا لها، فإذا تزلزلت الأوتاد لم يبق للأرض قرار، وأيضًا إنّ زلزلة العلويّات أظهر من زلزلة السفليات، ومن زلزلتها تبلغ القلوب الحناجر خوفًا من الوقوع..
﴿وَكَانَتِ الْجِبَالُ﴾ من شدّة الرجفة مع صلابتها وارتفاعها ﴿كَثِيبًا﴾؛ أي: رملا مجتمعا ﴿مَهِيلًا﴾؛ أي: رخوًا ليّنًا سائلًا. وفي "القاموس": الكثيب: التل من الرمل انتهى، من كثب الشيء إذا جمعه، كأنه فعيل بمعنى مفعول في أصله، ثم صار اسمًا بالغلبة للرمل المجتمع؛ أي: صارت مثل رمل مجتمع هيل هيلًا؛ أي: نثر وأسيل بحيث لو حرك من أسفله انهال من أعلاه وسال، لتفرق أجزائه كالعهن المنفوش، ومثله هذا الرمل يمر تحت الرجل ولا يتماسك، فكونه متفرق الأجزاء منثورًا سائلًا لا ينافي كونه رملًا مجتمعًا. فـ ﴿مَهِيلًا﴾ اسم مفعول من هال يهيل هيلا كباع يبيع بيعًا ومبيعًا، لا فعيل من مهل يمهل. وخص (٣) الجبال بالتشبيه بالكثيب المهيل، لأنّ ذلك خاصة لها، فإن الأرض تكون مقررة في مكانها بعد الرجفة، دل عليه قوله

(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon