التشبيه، وليس المعنى: أنها قوراير زجاجية متخذة من الفضة بل الحكم عليها بأنها قوارير، وأنها من فضة من باب التشبيه البليغ؛ لأنها في نفسها ليست زجاجًا ولا فضة. لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن أرض الجنة من فضة، وأواني كل أرض من تربة تلك الأرض". ويستفاد من هذا الكلام وجهٌ آخر لكون تلك الأكواب من فضة، ومن قوراير، وهو أن أصل القوارير في الدنيا: الرمل، وهي سريعة الانكسار. وأصل قوراير الجنة هو فضة الجنة، فكما أنَّ الله قادر على أن يقلب الرمل الكثيف زجاجة صافية، فكذلك قادر على أن يقلب فضة الجنة قارورة صافية.
والغرض (١) من ذكر هذه الآية التنبيه على أن نسبة قارورة الجنة إلى قارورة الدنيا كنسبة الفضة إلى الرمل، فكما أنه لا نسبة بين هذين الأصلين، فكذا لا نسبة بين القارورتين، كذا في "حواشي ابن الشيخ".
قال بعضهم: لعل الوجه في اختيار كون ﴿كَانَتْ﴾ تامة مع إمكان جعلها ناقصة، و ﴿قَوَارِيرَا﴾ الأول خبرًا لها الإعظام بتكوين الله تعالى، فيكون فيه تفخيم الآنية بكونها أثر قدرة الله تعالى. و ﴿قَوَارِيرَ﴾ الثاني بدل من الأول على سبيل الإيضاح والتعيين. أي: قوارير مخلوقةً من فضة. ولا منافاة (٢) بين كون الأواني من الفضة وبين كونها من الذهب، كما ذكر في قوله: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ﴾ لأنّهم تارة يسقون بهذه وتارة يسقون بتلك.
وقرأ نافع، والكسائيّ، وأبو بكر (٣): ﴿قواريرًا قواريرًا﴾ بالتنوين فيهما مع الوصل وبالوقف عليهما بالألف، وقد تقدم وجه هذه القراءة في تفسير قوله: ﴿سَلاسِلَ﴾ من هذه السورة، وبيَّنَّا هنالك وجه صرف ما فيه صيغة منتهى المجموع، فأرجع إليه. وقرأ حمزة بعدم التنوين فيهما، وعدم الوقف بالألف، ووجه هذه القراءة ظاهر، لأنّهما ممنوعان من الصرف لصيغة متنهى المجموع. وقرأ هشام بعدم التنوين فيهما مع الوقف عليهما بالألف. وقرأ ابن كثير بتنوين الأول دون الثاني، والوقف على الأول بالألف دون الثاني. وقال الزمخشري (٤): وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق؛ لأنه فاصلة، وفي الثاني لإتباعه الأول انتهى.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
(٤) البحر المحيط.