يتّبعوا عظاته وما فيه رشدهم وصلاحهم في آخرتهم ودنياهم، فقال: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ﴾؛ أي: (١) فبأيّ خبر يخبر بالحقّ، وينطق بما كان وما يكون على الصدق؟ ﴿بَعْدَهُ﴾؛ أي: بعد القرآن الناطق بأحاديث الدارين وأخبار النشأتين على نمط بديع معجز مؤسّس على حجج قاطعة وبراهبن ساطعة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ إذا لم يؤمنوا به؛ أي: بالقرآن الجامع لجميع الأحاديث والأخبار. فقوله: ﴿فَبِأَيِّ...﴾ إلخ، جواب شرط محذوف، وكلمة ﴿بعد﴾ بمنزلة ثمّ في إفادة التراخي الرتبي، أي: فإذا لم يؤمنوا به وهو موصوف بما ذكر فبأي كتاب يؤمنون؟ أي: إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل على تجلّيها ووضوحها فبأي كلام بعد هذا يصدقون؟
وقصارى ذلك: أنَّ القرآن قد اشتمل على البيان الشافي، والحق الواضح، فما بالهم لا يبادرون إلى الإيمان به قبل الفوت وحلول الموت وعدم الانتفاع بعسى ولعل وليت؟. وقرأ الجمهور (٢) ﴿يُؤْمِنُون﴾ بالتحتية على الغيبة. وقرأ ابن عامر في رواية عنه، ويعقوب بالفوقية على الخطاب.
وقد ختم سبحانه (٣) السورة بالتعجيب من الكفّار؛ لأن الاستفهام للتعجيب وبين أنهم في أقصى درجات التمرد والعناد، حيث لم ينقادوا لمثل هذا البرهان الساطع والدليل القاطع على حقّيّة الدين القويم من حيث كونه في أرفع درجات الفصاحة والبلاغة، وفي أقصى طبقات الإعجاز. واستدل بعض المعتزلة على أنّ القرآن ليس بقديم بقوله تعالى: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ﴾؛ إذ الحديث ضدّ القديم؛ لأنّ الحدوث والقدم لا يجتمعان في شيء واحد، ورد بأن الحديث هنا بمعنى الخبر لا بمعنى الحادث، ولو سلم فالعبارة لا تدل على أنّ القرآن محدث لاحتمال أن يكون المراد فبأيّ حديث بعد القديم يؤمنون؟ وروي: أنّ المرسلات نزلت في غار قرب مسجد الخيف بمنى، يسمّى غار والمرسلات.
خاتمة (٤): وجاء في هذه السورة بعد كل جملة قوله: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥)﴾؛ لأنّ كل جملة منها فيها إخبار الله تعالى عن أشياء من أحوال الآخرة، وتقريرات من أحوال الدنيا، فناسب أن يذكر الوعيد عقيب كلّ جملة منها للمكذّب

(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
(٤) البحر المحيط.


الصفحة التالية
Icon