ويجوز (١) أن يكون ﴿مَا أَكْفَرَهُ﴾ استفهامًا بمعنى: التقريع والتوبيخ؛ أي: أيُّ شيء حمله على الكفر،
١٨ - ثم ذكر سبحانه ما كان ينبغي لهذا الكافر أن ينظر فيه حتى ينزجر عن كفره، ويكف عن طغيانه، فقال: ﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨)﴾؛ أي: من أيِّ شىء خلق الله هذا الكافر، والاستفهام للتقرير،
١٩ - ثم فسر ذلك فقال: ﴿مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ﴾: أي: من نطفة قذرة أنشأه وأوجده، فمن كان أصله مثل هذا الشيء الحقير.. كيف يليق به التكبر والتجبر والكفران بحق المنعم الذي كسا ذلك الحقير بمثل هذه الصورة البهية وهذا تحقير له. قال الحسن: كيف يتكبر من خرج من مخرج البول مرتين. وعن بعضهم: كيف تكبر الإنسان وأوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين الوقتين حمال عذرة.
ومعنى: ﴿فَقَدَّرَهُ﴾؛ أي: فسواه وهيأه لما يصلح له ويليق به من الأعضاء والأشكال، فخلق له اليدين والرجلين (٢) والعينين، وسائر الآلات والحواس؛ أي: أحدثه بمقدر معلوم من الأعضاء والأشكال والكمية والكيفية، فجعله مستعدًا لأن ينتهي فيه إلى القدر اللائق بمصلحته، فلا يلزم عطف الشيء على نفسه، وذلك أن خلق الشيء أيضًا تقديره وإحداثه بمقدار معلوم من الكمية والكيفية. وقيل: أطوارًا من حال إلى حال، نطفةً ثم علقة إلى أن تم خلقه، فالتقدير المفرع على الخلق مأخوذ من القدر بمعنى الطور؛ أي: أوجده على التقدير الأول، ثم جعله ذا طور من علقة مضغة إلى آخر أطواره ذكرًا أو أنثى، شقيًا أو سعيدًا. قال بعضهم: وعلى الوجهين، فالفاء للتفصيل فإن التقدير يتضمنه على المعنيين.
٢٠ - وقوله: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠)﴾ منصوب (٣) على الاشتغال بفعل محذوف يفسره المذكور تقديره: ثم يسر السبيل يسره؛ أي: سهل مخرجه من البطن بأن فتح فم الرحم، وكان غير مفتوح قبل الولادة، وألهمه أن ينتكس بأن ينقلب ويصير رجله من فوق، ورأسه من تحت، ولولا ذلك لا يمكنها أن تلد، أو يسر له سبيل الخير والشر في الدين، ومكنه من السلوك فيهما، كما قال: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)﴾، وذلك بالإقدار والتعريف له بما هو نافع وضار، وبالعقل وبعثة الأنبياء، وإنزال الكتب، ونحو ذلك. وتعريف السبيل باللام دون الإضافة بأن يقال: سبيله للإشعار بعمومه؛

(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon