٣٢ - ثم ذكر الحكمة في خلق هذه الأشياء فقال: ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (٣٢)﴾ مفعول لأجله لـ ﴿أنبتنا﴾؛ أي: أنبتنا ذلك المذكور تمتيعًا لكم ولمواشيكم، فإن بعض النعم المعدودة طعام لهم، وبعضها علف لدوابهم، والالتفات لتكميل الامتنان؛ أي: لتتمتعوا به وتنتفعوا به أنتم وأنعامكم منه ما ينتفع به الإنسان، ومنه ما يأكله الدواب.
٣٣ - وقوله: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣)﴾ شروع (١) في بيان أحوال معادهم، إثر بيان مبدأ خلقهم ومعاشهم، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها من فناء النعم عن قريب، كما يشعر لفظ المتاع بسرعة زوالها، وقرب اضمحلالها، و ﴿الصَّاخَّةُ﴾: هي القيامة، والداهية العظيمة التي يصح لها الخلائق؛ أي: يصيخون لها، من صخ لحديثه: إذا أصاخ واستمع، وصفت به النفخة الثانية؛ لأن الناس يصخون لها في قبورهم، فأسند الاستماع إلى المسموع مجازًا، وقيل: هي الصيحة التي تصم الآذان لشدة وقعها، وقيل: هي مأخوذة من صخه بالحجر؛ أي: صكه، فتكون الصاخة حقيقة في النفخة، وجواب إذا محذوف يدل عليه قوله: لكل امرىء منهم إلخ، تقديره: فإذا جاءت الصاخة - أي: القيامة - اشتغل كل امرىء بنفسه، والظرف في قوله: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦)﴾؛ إما بدل من ﴿إِذَا جَاءَتِ﴾، أو منصوب بمقدر؛ أي: أعني، ويكون تفسيرًا لـ ﴿الصَّاخَّةُ﴾، أو بدلًا منها مبني على الفتح؛ أي: أعني بالصاخة: يوم يعوض الإنسان عن هؤلاء المذكورين، ولا يصاحبهم ولا يسأل عن حالهم، كما في الدنيا؛ لاشتغاله بحال نفسه، ولعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئًا، وخص (٢) هؤلاء بالذكر لأنهم أخص القرابة وأولاهم بالحنو والرأفة، فالفرار منهم لا يكون إلا لهول عظيم وخطب فظيع.
وتأخير الأحب للمبالغة (٣)؛ لأن الأبوين أقرب من الأخ، وتعلق القلب بالصاحبة والأولاد أشد من تعلقه بالأبوين، وهذه الآية تشمل النساء كما تشمل الرجال، ولكنها خرجت مخرج كلام العرب؛ حيث تدرج النساء في الرجال في الكلام كثيرًا.
قال عبد الله بن طاهر الأبهري - رحمه الله تعالى -: يفر منهم إذا ظهر له عجزهم وقلة حيلتهم إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه، ولو ظهر له

(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon