علمت حينئذٍ نفس من النفوس ما أحضرت.. وجب على كل نفس إصلاح عملها مخافة أن تكون هي التي علمت ما أحضرت، فكيف وكل نفس تعلمه على طريقة قولك لمن تنصحه: لعلك ستندم على ما فعلت، وربما ندم الإنسان على ما فعل، فإنك لا تقصد بذلك أن ندمه مرجو للوجود لا متيقن به، أو نادر الوقوع، بل تريد أن العاقل يجب عليه أن يجتنب أمرًا يرجى فيه الندم، أو قلما يقع فيه، فكيف إذا كان قطعي الوجود كثير الوقوع.
والمراد بـ ﴿مَا أَحْضَرَتْ﴾: أعمالها من الخير والشر، وبحضورها: إما حضور صحائفها كما يعرب عنه نشرها، وإما حضور أنفسها لأن الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية تبرز في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح على كيفيات مخصوصة وهيئات معينة، وإسناد حضورها إلى النفس مع أنها تحضر بأمر الله، لما أنها عملتها في الدنيا كأنها أحضرتها في الموقف، ومعنى علمها بها حينئذٍ: أنها تشاهدها على ما هي عليه في الحقيقة، فإن كانت صالحة.. تشاهدها على صور أحسن مما كانت تشاهدها عليه في الدنيا؛ لأن الطاعة لا تخلو فيها عن نوع مشقة، وقد ورد: "حفت الجنة بالمكاره"، وإن كانت سيئة تشاهدها على ما هي عليه هاهنا؛ لأنها كانت مزينة لها، موافقة لهواها، كما ورد: "وحفت النار بالشهوات". وقال بعضهم (١): العلم بالأعمال كناية عن المجازاة عليها من حيث إن العلم لازم للمجازاة.
والمعنى (٢): أي إذا حصل كل ما تقدم من الأحداث السالفة.. تعلم كل ما كان من عملها متقبلًا، وما كان منه مردودًا عليها، فكثير من الناس كانوا في الحياة الدنيا مغرورين بما تزينه لهم الشياطين، وسيجدون أعمالهم يوم القيامة غير مقبولة ولا مرضي عنها، بل هي مبعدة من الله مستحقة لغضبه، فالذين يعملون أعمالهم رئآء الناس ليس لهم من عملهم إلا الجهد والمشقة، ولا تكون متقبلة عند ربهم، فعلينا أن ننظر إلى الأعمال بمنظار الشرع، ونزنها بميزانه الصحيح، والله لا يتقبل من الأعمال إلا ما صدر عن قلب مليء بالإيمان عامر بحبه والرغبة في رضاه، والحرص على أداء واجباته التي فرضها عليه.

(١) روح البيان.
(٢) المراغي.


الصفحة التالية
Icon