والصدق الواضح، والدليل اللائح،
١٥ - وبعد أن بيَّن منزلة الفجار والمكذبين بيوم الدين.. دحض ما كانوا يقولون من أن لهم الكرامة والمنزلة الرفيعة يوم القيامة، فقال: ﴿كَلَّا﴾ ردع وزجر عن الكسب الرائن؛ أي: الموقع في الرين ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي: إن المكذبين، والجار في قوله: ﴿عَنْ رَبِّهِمْ﴾، والظرف في قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ يقوم الناس لرب العالمين، متعلقان بقوله: ﴿لَمَحْجُوبُونَ﴾ فلا يرونه؛ لأنهم بأكسابهم القبيحة صارت مرآة قلوبهم ذات صدأ، وسرت ظلمة الصدأ منها إلى قوالبهم، فلم يبق محل لنور التجلي، بخلاف المؤمنين، فإنهم يرونه تعالى؛ لأنهم بأكسابهم الحسنة صارت مراة قلوبهم مصقولة صافية، وسرى نور الصقالة والصفوة منها إلى قوالبهم، فصاروا مستعدين لانعكاس نور التجلي في قلوبهم وقوالبهم، وصاروا وجوهًا من جميع الجهات، بل أبصارًا بالكلية.
والمعنى: أي ارتدعوا عما تقولون من أنكم يوم القيامة تكونون مقربين إلى الله، فإنكم ستطردون من رحمته، ولا تنالون رضاه، ولا تدركون ما زعمتم من القرب والزلفى عنده، كما قال: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾.
سئل (١) مالك بن أنس رحمه الله عن هذه الآية، فقال: لما حجب أعداءه فلم يروه، لا بد أن يتجلى لأوليائه حتى يروه، يعني: احتج الإمام مالك بهذه الآية على مسألة الرؤية من جهة دليل الخطاب، وإلا فلو حجب الكل.. لم يبقَ للتخصيص فائدة، فالآية من جملة أدلة الرؤية. وقال جل ثناؤه: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣)﴾ فأعلم جل ثناؤه أن المؤمنين ينظرون، وأعلم أن الكفار محجوبون، وقيل (٢): ﴿كَلَّا﴾ بمعنى حقًا؛ أي: حقًا إنهم - يعني: الكفار - عن ربهم يوم القيامة محجوبون لا يرونه أبدًا، قال مقاتل: يعني: أنهم بعد العرض والحساب لا ينظرون إليه نظر المؤمنين إلى ربهم.
١٦ - ثم ذكر ما يكون لهم فوق ذلك فقال: ﴿ثُمَّ إِنَّهُمْ﴾ مع كونهم محجوبين عن رؤية الله تعالى ﴿لَصَالُو الْجَحِيمِ﴾؛ أي: داخلوا النار، ومباشروا حرها من غير حائل، أصله صالون، حذفت نونه للإضافة، و ﴿ثُمَّ﴾ لتراخي الرتبة، فإن صِلي الجحيم أشد

(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.


الصفحة التالية
Icon