قدرًا، فيكون من علو المكان، وإما لأنها تأتيهم من فوق، فيكون من علو المكانة؛ أي: ومزاج ذلك الرحيق من تسنيم، وهو شراب ينصب عليهم من علو، وهو أشرف شراب الجنة، وأصل التسنيم في اللغة: الارتفاع، فهي عين ماء تجري من علو إلى سفل. ومنه: سنام البعير، لعلوه من بدنه، ومنه: تسنيم القبور، روي: أنها تجري في الهواء متسنمة، فتنصب في أوانيهم، فإذا امتلأت أمسك الماء حتى لا يقع منه قطرة على الأرض، فلا يحتاجون إلى الاستقاء،
٢٨ - ثم بين هذا التسنيم فقال: ﴿عَيْنًا﴾، وانتصابه على المدح، وقال الزجاج (١): على الحال، وإنما جاز أن تكون ﴿عَيْنًا﴾ حالًا مع كونها جامدة غير مشتقة لاتصافها بقوله: ﴿يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ من جناب الله قربًا معنويًا روحانيًا، والباء في ﴿بِهَا﴾؛ إما زائدة؛ أي: يشربها، أو بمعنى: من؛ أي: يشرب منها، قال ابن زيد: بلغنا أنها عين تجري من تحت العرش، قيل: يشرب بها المقربون صرفًا، ويمزج بها كأس أهل اليمين.
والمعنى (٢): أمدح عينًا يشرب منها الأبرار الرحيق مزاجًا إذا أرادوا، ويشرب منها المقربون صرفًا، وقد اعتاد أهل الدنيا إذا شربوا الخمر أن يمزجوها بالماء ونحوه، فبيَّين لهم أنهم في الآخرة يشربون رحيقًا قد وصف بما يجعل النفوس تتشوق إليه، وأنهم يمزجونه بماء تجيئهم به العين العالية القدر إذا شاؤوا أن يمزجوه.
٢٩ - ثم ذكر سبحانه بعض قبائح المشركين، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾؛ أي: إن الذين كانوا ذوي جرم وذنب، ولا ذنب أكبر من الكفر وأذى المؤمنين لإيمانهم، فالمراد بهم: رؤساء قريش، وأكابر المجرمين المشركين، كأبي جهل، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وأضرابهم ﴿كَانُوا﴾ في الدنيا ﴿مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إيمانًا صادقًا ﴿يَضْحَكُونَ﴾؛ أي: يستهزئون بفقرائهم، كعمار وصهيب وبلال وخباب وغيرهم، وتقديم (٣) الجار والمجرور لمراعاة الفواصل؛ أي: إن (٤) المعتدين الأئمة الذين ضربت نفوسهم على الشر، وصمت آذانهم عن سماع دعوة الحق، كانوا في الدنيا يضحكون من الذين امنوا، ذاك أنه حين رحم الله تعالى العالم ببعثة
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.