بصورها، وظنوا أن ذلك هو غاية ما يطالب الله عباده به بقوله: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ﴾ وتختارون أيها الكفرة وأيها الناس مؤمنكم وكافركم ﴿الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ القريبة الزوال على الآخرة الباقية، وهذا إضراب عن كلام مقدر يدل عليه السياق، أي: لا تفعلون ذلك، بل تؤثرون اللذات الفانية في الدنيا.
وقرأ الجمهور (١): ﴿تُؤْثِرُونَ﴾ بتاء الخطاب للكفار، أو لجميع الناس، ويؤيدها قراءة أبي: ﴿بل أنتم تؤثرون﴾ وقرأ عبد الله وأبو رجاء والحسن والجحدري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو والزعفراني وابن مقسم: بياء الغيبة، قيل: المراد بالآية: الكفرة، والمراد بإيثار الحياة الدنيا: هو الرضا بها، والاطمئنان إليها، والإعراض عن الآخرة بالكلية، كما في قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا﴾ الآية، وقيل (٢): المراد بالآية: جميع الناس من مؤمن وكافر، والمراد بإيثارها: ما هو أعم من ذلك مما لا يخلو عنه غالب الناس من تأثير جانب الدنيا على الآخرة، والتوجه إلى تحصيل منافعها، والاهتمام بها اهتمامًا زائدًا على اهتمامهم بالطاعات، والالتفات على الأول لتشديد التوبيخ، وعلى الثاني كذلك في حق الكفرة، ولتشديد العتاب في حق المسلمين.
وفي "فتح الرحمن": فالكافر يؤثرها إيثار كفر يرى أن لا آخرة، والمؤمن يؤثرها إيثار معصية وغلبة نفس، إلا من عصم الله تعالى. وفي "عين المعاني": خطاب للأمة؛ إذ كل يميل إلى الدنيا إما رغبة فيها، أو ادِّخارًا لثواب الآخرة.
١٧ - وجملة قوله: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٧)﴾ في (٣) محل النصب على الحال من فاعل ﴿تُؤْثِرُونَ﴾، مؤكدة للتوبيخ والعتاب؛ أي: تؤثرونها على الآخرة، والحال أن الآخرة خير في نفعها لما أن نعيمها مع كونه في غاية ما يكون من اللذات خالص عن شائبة الفائتة، أبدي لا انصرام له، وعدم التعرض لبيان تكدر نعيم الدنيا بالمنغِّصات، وانقطاعه عما قليل لغاية ظهوره. قال مالك بن دينار: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى.. لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى، فكيف والآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من خزف يفنى. وفيه إشارة (٤)

(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon