إلى أن ظواهر الأشياء بالنسبة إلى حقائقها، كالقشر بالنسبة إلى اللب، واللب خير من القشر وأبقى؛ لأن لب الحب يحفظ زمانًا طويلًا، وقشره إذا سلخ من اللب يطرح في النار، أو يرمى بالمزابل، فيفنى بعد يومين أو أكثر، فأرباب القشر يؤثرون الأمور الظاهرة الخسيسة الدنية الفانية على الأمور الباطنة المعنوية الشريفة العزيزة الباقية؛ لكونهم محجوبين عن الآخرة، وأرباب اللب يختارون الآخرة، بل الله، كما قال: ﴿قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ﴾.
والمعنى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٧)﴾؛ أي (١): أنتم كاذبون فيما زعمتم لأنفسكم من حسن العمل؛ لأنكم لو كنتم صادقين فيما ذهبتم إليه.. لكنتم تفضِّلون الآخرة على الدنيا، كما يرشد إلى ذلك العقل، ويهدي إليه الشرع، فمتاع الآخرة دائم، ونعيمها لا يزول، ولا تنقيص فيه، ولا منَّ، ومتاع الدنيا متاع زائل تشوبه الأكدار، وتحوط به الآلام، فمن استعجل هذا النعيم، واستحب زينة الدنيا.. لا يكون مصدقًا بالآخرة ونعيمها، أو يكون إيمانه إيمانًا لا يجاوز طرف لسانه، ولا يصل إلى قلبه، فلا يجازى عليه الجزاء الذي وعد به المؤمنون، وقد يقال في معنى الآيات: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤)﴾؛ أي: من تاب من الذنوب ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ﴾ يعني: إذا سمع الأذان خرج إلى الصلاة ﴿فَصَلَّى﴾ ثم ذم تارك الجماعة لأجل اشتغاله بالدنيا، فقال: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦)﴾ يعني: تختارون عمل الدنيا على عمل الآخرة، وعمل الآخرة خيرٌ وأبقى من عمل الدنيا، والاشتغال بها وبزينتها.
١٨ - ثم بين أن الأصول العامة التي جاءت في هذه الشريعة هي بعينها التي جاءت في جميع الشرائع السماوية فقال: ﴿إِنَّ هَذَا﴾ إشارة إلى ما تقدم من فلاح من تزكَّى ومن بعده. وقيل: إنه إشارة إلى جميع السورة ﴿لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾؛ أي: لثابت في جميع الصحف السالفة، جمع: صحيفة، وهي: الكتاب.
قال الراغب: الصحيفة: المبسوط من كل شيء، كصحيفة الوجه، والصحيفة التي كان يكتب فيها، والمصحف: ما جعل جامعًا للصحف المكتوبة.