والكذاب: الكذب؛ أي: لا ينطقون بلغو، وهو ما يلغى ويطرح لعدم الفائدة فيه، ولا يكذب بعضهم بعضًا حتى يسمعوا شيئًا من ذلك، بخلاف حال أهل الدنيا في مجالسهم، لا سيما عند شربهم.
وقرأ الجمهور (١): ﴿كِذَّابًا﴾؛ بالتشديد، وقرأ الكسائي هنا بالتخفيف، ووافق الجماعة على التشديد في قوله: ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (٢٨)﴾ المتقدم في هذه السورة للتصريح بفعله هناك، وقد قدمنا الخلاف في ﴿كِذَّابًا﴾، هل هو من مصادر التفعيل، أو من مصادر المفاعلة؟
والمعنى: أي لا يجري بينهم حين يشربون لغو الكلام، ولا يكذب بعضهم بعضًا كما يجري بين الشرب في الدنيا لأنهم إذا شربوا لم تفتر أعصابهم، ولم تتغير عقولهم، كما قال تعالى: ﴿لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (١٩)﴾ واللغو والتكذيب مما تألم له أنفس الصادقين المخلصين،
٣٦ - ولما ذكر أنواع النعيم.. بين أن هذا جزاء لهم على ما عملوا، وتفضل منه سبحانه فقال: ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ﴾ مصدر مؤكد منصوب بمعنى: إن للمتقين مفازًا فإنه في قوة أن يقال: جازى الله سبحانه المتقين على أعمالهم الصالحة بمفاز، وما بعده جزاء عظيمًا مضاعفًا كائنًا من ربك على أن التنوين للتعظيم ﴿عَطَاءً﴾؛ أي: وأعطاهم الله ذلك عطاءً بلا مقابلة عمل تفضلًا وإحسانًا منه تعالى عطاء ﴿حِسَابًا﴾؛ أي: كثيرًا كافيًا لهم صفة لـ ﴿عَطَاءً﴾، بمعنى: كافيًا على أنه مصدر أقيم مقام الوصف؛ أي: محسبًا.
والخلاصة: أي جازاهم الله سبحانه بما ذكر، وأعطاهموه بفضله وإحسانه عطاءً كافيًا وافيًا.
فإن قلت (٢): إن ذلك يقتضي أن الله تعالى جعل الشيء الواحد جزاءً وعطاءً وهو غير ظاهر؛ لأن كونه جزاءً يستدعي ثبوت الاستحقاق، وكونه عطاءً يستدعي عدم الاستحقاق، فالجمع بينهما جمع بين المتنافيين.
قلت: ذلك الاستحقاق إنما يثبت بحكم الوعد، لا من حيث أن الطاعة توجب الثواب على الله، فذلك الثواب بالنظر إلى وعده تعالى إِياه بمقابلة الطاعة

(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon