العزيز المقتدر، كما يأخذ الراصد القائم على الطريق من يمر به بما يريد من خير أو شر، لا يفرط فيما رصد له.
وقد أجمل الله سبحانه في هذه الآيات ما أوقعه بهذه الأمم من العذاب، وفصله في غير موضع من كتابه الكريم، فقال في سورة الحاقة: ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (٦)﴾ إلى آخر ما هنالك، وقال: ﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (١٠)﴾، والحكمة في تكرار القصص في القرآن الكريم، وفي ذكر بعضها على طريق الإشارة في بعض المواضع، وبالتفصيل في بعض آخر أنه قد يكون الغرض تارة إقامة الحجة على قدرته تعالى، وتوحده في ملكة وقهره لعباده حينًا، وترقيق قلوب المخاطبين حينًا آخر، وإنذار عباده، وإعذارهم مرة ثالثة، ولا شك أن كل مقام من الكلام له لون منه من بسط أو إيجاز، لا يكون لغيره، وقد عرفت أن الغرض هنا تطييب خاطر الرسول - ﷺ - وأصحابه بأن الله تعالى سيمهل الكافرين، ولا يهملهم، وهو تعالى ليس بغافل عنهم، وحينئذٍ تدرك أن الإشارة إلى أن هذه الأمم أخذت وعذبت، ولم تترك سدى، كافية جد الكفاية لمن فكر وتدبر.
١٥ - ولما ذكر سبحانه أنه بالمرصاد.. ذكر ما يدل على اختلاف أحوال عباده عند إصابة الخير، وعند إصابة الشر، وأن مطمح أنظارهم، ومعظم مقاصدهم الدنيا، فقال: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ﴾، وهو مبتدأ، والخبر جملة ﴿يقول﴾ الآتي، قال السهيلي - رحمه الله تعالى -: المراد بالإنسان هنا: عتبة بن ربيعة، وكان هو السبب في نزولها فيما ذكر، وإن كانت هذه الصفة تعم، وقيل: أبي بن خلف، وقيل: أمية بن خلف، قاله مقاتل.
والكلام متصل (١) بما قبله من قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (١٤)﴾ كما أشرنا إليه آنفًا، وكأنه قيل: إنه تعالى بصدد مراقبة أحوال عباده ومجازاتهم بأعمالهم خيرًا أو شرًا، فأما الإنسان.. فلا يهمه ذلك، وإنما مطمح نظره ومرصاد فكره الدنيا ولذائذها، والفاء: استئنافية، وقيل: فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن ربك لبالمرصاد لأعمال عباده خيرًا أو شرًا ليجازيهم عليها،

(١) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon