إكرامًا له بأن لا يشغله بالنعمة عن المنعم ويجعل ذلك وسيلةً له في التوجه إلى الحق والسلوك في طريقه لعدم التعلق.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة، ما منهم رجل عليه رداء؛ إما إزار، وإما كساء، قد ربطوه في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ نصف الركبتين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. فتأمل يا أخي هل تكون هذه إهانةً لخواص الله، فالمؤمن إما في مقام الشكر، أو في مقام الصبر، وعنه - ﷺ -: "الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر".
والمعنى (١): أي وإن رأى الإنسان أن رزقه لا يأتي إلا بقدر.. ظن أن ذلك إهانة من الله له، وإذلال لنفسه، وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث؛ لأنه لا كرامة عنده إلا الدنيا، والتوسع في متاعها، ولا إهانة عنده إلا فوتها، وعدم وصوله إلى ما يريد من زينتها، وأما المؤمن.. فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته، ويوفقه لعمل الآخرة.
ويحتمل أن يراد بالإنسان العموم كما مر، لعدم تيقظه أن ما صار إليه من الخير، وما أصيب به من الشر في الدنيا ليس إلا للاختبار والامتحان، وأن الدنيا بأسرها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تعدل جناح بعوضة.. ما سقى الكافر منها شربة ماء.
والحاصل (٢): أن الإنسان في الحالين مخطىء مرتكب أشنع وجوه الغفلة، لأن إسباغ النعمة في الدنيا على أحد لا يدل على أنه مستحق لذلك، ولو دل على هذا.. لما رأيت عاصيًا موسعًا عليه في الرزق، ولا شاهدت كافرًا ينعم بصنوف النعم. ولعل من حكمة الله في بسط الرزق على بعض الناس، وتضييقه على بعض آخر: أن وجدان المال سبب للانغماس في الشهوات، وأنه قاطع عن الاتصال بالله، وأن فقدانه وسيلة لتمحيص المرء وابتلائه؛ ليكون من الصابرين الذين وعدوا بالجنة، انظر إلى قول النبي - ﷺ - فيما كان يدعو به ربه من قوله: "اللهم أحيني مسكينًا،

(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.


الصفحة التالية
Icon